الإمام الرضا يهدي أمريكيين ضائعين
الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
نقل لي شخص ثقة أنّه التقى في بيت أحد أصدقائه بمدينة مشهد المقدسة بطالب وطالبة أمريكيّين وكانا زوجين، وقد حصلت لهما قصة عجيبة رواها لنا (الزوج) بطلب من المضيف، فقال: عندما كنّا ندرس في إحدى الجامعات الأمريكية كنا على الدوام نشعر بفراغ روحي، وقال مشيرًا إلى صدره: كنت أشعر أنّ هذا المكان خالٍ، ثم أخذت أتصوّر أنّ هذا النقص ناجم عن الغريزة الجنسية، وأنّ هذا الفراغ سوف يملأ بالزواج من هنا قرّرنا نحن الاثنين أن نتزوّج، ولكنّ هذا الفراغ لم يمتلئ بعد الزواج أيضًا، وبقينا نشعر بهذا النقص في داخلنا. فضجرت كثيرًا نتيجة لهذا الأمر ورغم أنّني كنت أحب زوجتي، لكنّني كنت لا أبدي رغبة نحوها في الظاهر، بل حتى لم تكن لديّ طاقة على الحديث معها أحيانًا. وذات يوم قلت لها معتذرًا: إذا ما رأيتيني أحيانًا تحصل لديّ حالة معيّنة وأبتعد عنك فلا تتصوّري أنّني لا أحبك، بل إنّ هذا الضجر والبرود والشعور بالفراغ الداخلي كان يراودني منذ أن كنت طالبًا ولا يزال إلى الآن وهو يصيبني بين الحين والآخر. قالت زوجتي: إنّني مصابة بمثل هذه الحالة أيضًا. وبعد التحاور أدركنا أنّ هذا الشعور بالفراغ الروحي هو شعور مشترك بيننا، وفي النتيجة قرّرنا أن نفكّر بطريقة لعلاجه.
في البداية قرّرنا أن نكثر من تردّدنا على الكنيسة ونباشر الأعمال المعنوية عسى أن يزول هذا الفراغ. فوسّعنا ارتباطنا بالكنيسة وأخذنا بقراءة بعض الكتب في هذا المجال، لكنّ ذلك الفراغ والظمأ الروحي لم يرتفع. وبما أنّنا قد سمعنا أنّ في بلاد الشرق وخاصة الصين والهند مذاهب تدعو الناس إلى الرياضة الروحية والقيام بألوان من الترويض للوصول إلى الحقيقة، فقد عزمنا على السفر إلى تلك البلدان، وبما أنّ الصين هي الأقرب إلى أمريكا من بين سائر البلدان الشرقية، فقد بدأنا سفرنا إلى الصين. وفي الصين طلبنا من المسؤولين في السفارة الأمريكية أن يرشدونا إلى أناس متضلّعين في المسائل المعنوية والرياضة الروحية، فوصفوا لنا شخصًا كان يقال أنّه زعيم رجال الدين في الصين وأعظم شخصية معنوية في البلاد. واستطعنا بمساعدة السفارة الذهاب عنده وانهمكنا لفترة من الزمن في الرياضة وفق توجيهه ومساعدته، لكنّ النقص المعنوي وفراغنا الروحي لم يرتفع.
توجّهنا من الصين إلى التبت، حيث كان هناك وفي أحضان جبال الهملايا معابد يرتاض ويتعبّد فيها مجموعة من الناس. فسمحوا لنا بأن ندخل أحد المعابد ونقوم بالارتياض فيه، فكانت الرياضات التي تحمّلناها هناك في غاية الصعوبة، منها أنّنا استلقينا أربعين ليلة على سرير كانوا قد دقّوا فيه مسامير حادّة. بعد مضيّ مدة هناك والقيام بالرياضات والعبادة شعرنا من جديد أنّ فراغنا الروحي لا يزال باقيًا فينا. ومن هناك توجّهنا إلى الهند واتصلنا بالكثير من المرتاضين، ومارسنا الرياضة لفترة من الزمن، ولكن دون أن نحصل على نتيجة فأصابنا اليأس. وبالنتيجة تولد لدينا تصوّر هو أنّه لا وجود في العالم لحقيقة تستطيع إشباع الفراغ الروحيّ لدى الإنسان.
قرّرنا آيسين أن نسلك طريق الشرق الأوسط إلى أوروبا ومن ثم إلى أمريكا. فغادرنا الهند ودخلنا إلى الباكستان ومن ثم إلى أفغانستان وبالتالي دخلنا إلى إيران. فدخلنا في البداية إلى مدينة مشهد الكبيرة، فوجدناها مدينة كبيرة عجيبة لم نر إلى الآن نظيرًا لها. ففي مركز المدينة أثارت اهتمامنا بناية رائعة وعظيمة فيها قبّة ومنارات ذهبية تزورها جموع الناس بشكل مستمر. فسألت: ما الذي يحصل هنا؟ وما هو دين هؤلاء الناس؟ فقالوا: إنّ هؤلاء مسلمون وكتابهم القرآن، وفي هذه المدينة وبالذات في هذا المبنى مدفون أحد زعمائهم الذي يسمّونه إمامًا. فسألت: ما هو الإمام وماذا يفعل؟ قالوا: الإمام إنسان كامل بلغ أعلى مراتب الكمال الإنساني، وبوصوله لهذه المرتبة لم يعد هنالك معنى للموت بالنسبة له، وهو حيّ حتى بعد مغادرته لهذه الدنيا. وبما أنّ للمسلمين مثل هذا الاعتقاد فإنّهم يذهبون لزيارة إمامهم ويطلبون حاجاتهم بكل أدب واحترام فتقضى لهم.
قلت لهم اقرأوا علينا مقاطع بارزة من القرآن، فقالوا وِرد في إحدى آيات القرآن أنّ كل شيء يسبّح الله. فأصبح ذلك الكلام لغزًا بالنسبة إلينا، فكيف أنّ إمامهم ميّت لكنّهم يعتبرونه حيًّا، وبالإضافة إلى هذا المعتقد فهم يقولون أنّ كل شيء حتى الجبال والأشجار تسبّح الله؟! لم نصدق وقررنا أن ندخل المشهد الرضوي لمشاهدته. وفي الصحن كان هنالك أحد الخدام يحمل في يده آلة تشبه الهراوة مغلّف رأسها بالفضة، وعندما انتبه إلى أنّنا أجانب منعنا من الدخول وقال: يُمنع دخول الأجانب! فقلنا له لقد قطعنا آلاف الكيلومترات مسافرين في أنحاء العالم ودخلنا مختلف الأماكن ولم يقولوا لنا ممنوع دخول الأجانب، فلماذا تمنعنا من الدخول؟ فنحن نريد مشاهدة هذا المكان فقط ولا نية سوء لدينا، ومهما أصررنا لم يجد إصرارنا نفعًا، ومنعونا من الدخول.
ابتعدنا عن ذلك المكان ونحن نعتصر ألمًا، وعلى بعد مسافة جلسنا على حافة جدول ماء مقابل فندق، فغرقت بالتفكير قليلًا وقلت: رُبّ حقيقة في العالم مكنونة هنا ونحن لا نعرفها! فإذا كان في هذا المكان حقيقة ما ولا يسمح لنا هؤلاء بأن نطّلع عليها فإنّه مدعاة حسرة وألم شديد بالنسبة إلينا حيث نظلّ محرومين من الوصول إلى تلك الحقيقة رغم كل هذا العناء وتحمل وعثاء السفر، فبكيت دون إرادة مني واستمر بكائي مدة من الزمن.
فجأة دارت في خلدي فكرة وهي أنّ هذا المدفون إما هو إمام وإنسان كامل وهؤلاء صادقون وإما أنّهم يكذبون وهو ليس إنسانًا كاملًا. فإذا كان هؤلاء صادقين وهو حي حقًّا ويحيط بكل شيء فهو يعلم الهدف الذي نسعى وراءه نحن حيث قطعنا كل هذه الطرق ولا بد أن يدركنا، وإذا كان هؤلاء كاذبين فلا داعي لأن نذهب لمشاهدته. وحيث كنت أهمل الدمع وأسلّي نفسي فإذا ببائع متجوّل يحمل بيده عددًا من المرائي والسبح والترب قد جاء عندي وقال لي باللغة الإنجليزية وبلهجة مدينتنا: ممّ ضجرك؟ فرفعت رأسي وسردت عليه القصة بأنّنا قد سافرنا إلى عدة دول من أجل اكتشاف الحقيقة وتحمّلنا الرياضات لسنوات عديدة والآن قد جئنا إلى هنا فلم يسمحوا لنا بدخول الحرم. قال: لا تبتئس! اذهب فإنّهم سيسمحون لكم! قلت: لقد ذهبنا توًّا قلم يسمحوا لنا. قال: حينها لم يكن لديهم إذن بذلك. في تلك الأثناء لم أفكر كيف أنّ ذلك البائع المتجول يكلّمني باللغة الإنجليزية وبلهجتنا الدارجة، ومن أين له العلم بأنّ خدّام الحرم لم يكن لديهم إذن بأن يسمحوا لنا بالدخول، والآن قد حصلوا على الإذن، ولماذا كشفت له ما في داخلي من سرّ.
أخيرًا توجّهنا إلى الحرم وعند وصولنا لم يمنعنا الخادم من الدخول، فقلت في نفسي لعله لم يرنا، فرجعنا ونظرنا إليه، لكنّه لم يبد ردة فعل تجاهنا، فدخلنا الصحن ووصلنا إلى ممر كان حشد كبير من الناس يدخلون منه، ونحن دخلنا الممر إلى جانب الجموع الداخلة، فكان ضغط الحشود يأخذنا بهذا الاتجاه وذاك حتى وصلنا إلى باب الحرم، لكنّني فوجئت بالشعور بخلو ما يحيط بي، وكلما تقدّمت إلى الأمام كانت جوانبي تصبح أكثر فراغًا ووصلت الضريح المقدس دون مضايقة واندفاع الحشود، وشاهدت شخصًا واقفًا داخل الضريح. ودون إرادة مني بادرت بالاحترام والسلام عليه، فردّ عليّ السلام مبتسمًا وقال: ماذا تريد؟ فزال الكثير مما كان في خاطري، وكلما أردت أن أقول ماذا أريد لم يحضر إلى ذهني شيء، فاستحضرت في ذهني أمرًا واحدًا طرحته عليه وهو: أنّني سمعت أنّه قد جاء في القرآن أنّ جميع المخلوقات تسبّح الله! فلما طرحت الأمر عليه قال: سوف أريك ذلك. ثم خرجت من الحرم بلا إرادة وشعرت مرة أخرى أنّ ما يحيط بي خالٍ ولا أحد يضايقني، وألقيت تحية الوداع وخرجت من الحرم ودخلت الرواق فاعترتني حالة وكأني أسمع كل ما يدور حولي من جدران وأشجار وأرض وسماء يسبّح الله. ولدى مشاهدة هذا المنظر لم أعد أفهم شيئًا فوقعت على الأرض مغمًى عليّ. وعند استفاقتي وجدت نفسي ملقًى على سرير في غرفة وهنالك مجموعة من الناس كانوا يرشّون الماء على وجهي إلى أن استيقظت. وبعد تلك الحادثة عرفت أنّ في الكون حقيقة، وتلك الحقيقة تكمن هنا، وبإمكان الإنسان أن يبلغ مرتبة فيها يتساوى لديه الموت والحياة، فلا موت لديه، كما أدركت أنّ القرآن صادق إذ يقول أنّ كل شيء يسبّح الله.
الأمر الملفت للنظر في القصة المتقدمة هي أنّه في هذه الحادثة الخارقة قد ثبتت جميع الحقائق لذلك الشاب من خلال العيان والمشاهدة، فمن المسلّم به أنّه كان يستلزم المزيد من الوقت ليطّلع على جميع الحقائق عبر الأدلة والدراسات العلمية، فهو كان يحتاج إلى وقت لمعرفة الله، فكان عليه أن يمضي فترة لإثبات وجود الله، وبعد ذلك يصل الدور لإثبات النبوة، ويليها إثبات الإمامة، وغيرها من المسائل، بيد أنّ كل شيء قد ثبت له من خلال حادثة واحدة، فبمعرفته للإمام الثامن (ع) وحقّانيّته تعرّف أيضًا على حقّانيّة الشيعة وعقائدهم، وأدرك أنّ الإمام لا يفنيه الموت، وأنّ الموت الظاهري للمعصوم لا يؤثر في سيرته واستمرار فاعليّته وتصرّفاته التكوينية والمعنوية، كما ثبتت له حقانية القرآن وسائر أمورنا المقدسة وأصولنا المذهبية والدينية.
من كتاب شمس الولاية