
متى يخطئ الفقيه في تشخيص تكليفه؟
السيد عبّاس نورالدين
نسمع عن المرجع أو العالم أو الفقيه الفلاني أنّه شخّص تكليفه لأن يقوم بفعلٍ ما أو ينهض بأمرٍ ما؛ لقد سمعنا مثلًا أنّ الإمام الخميني(قده)، أيام المواجهة والنضال ضدّ الحاكم المستبد في إيران قبل الثورة الإسلامية، كان يقول: إنّ تكليفي هو أن أُسقط هذه الحكومة. وفي الوقت نفسه كنا نسمع عن مراجع أو فضلاء من أهل العلم أنّهم كانوا يقولون: إنّ تكليفنا هو أن نسكت عن الشاه أو عن هذه الحكومة حتى لو كانت جائرة.
وهناك علماء قد شخّصوا أنّ تكليفهم هو مواجهة ما اعتبروه بدعةً أو مشروعًا فيه رائحة البدعة والنشوز عن الدين وقاموا بناءً عليه بمواجهة أشخاص أو علماء آخرين وفضحهم والرد عليهم ومناظرتهم وأمثال ذلك. إذًا، نجد أنّ تحديد التكليف بين أهل العلم يعيش مثل هذه الحالة من التضاد أو التناقض.
من جهة أخرى نكتشف أحيانًا أنّ هذا التكليف الذي شخّصه الفقيه أو العالم الفلاني لنفسه لم يكن مصيبًا، بل أدّى إلى وقوع ويلات وفتن وإلى انجرار الساحة إلى مواجهات في غير محلّها.
في الوقت نفسه يوجد من العلماء والمشايخ من يقول بأنّ الرسالة العملية هي كل ما ينبغي أن يقوم به المكلف في حياته، فهي تستوعب كل مسائل الابتلاء. وفي المقابل سمعنا عن علماء ومراجع وأشخاص قد حدّدوا تكليفهم من دون أن يكون موجودًا في الرسالة العملية.
فمن أين استنبط هؤلاء تكليفهم؟ وهل يحق للإنسان العادي أن يشخّص تكليفه المرتبط ببعض قضايا الزمان أو الحوادث الواقعة؟
يبدو أنّ هناك موضوعات وقضايا ينبغي تحديد التكليف فيها خارج إطار الرسالة العملية، لأنّ الرسالة العملية لا تشخّص الموضوعات في كثير من الأحيان، وإن كان هناك موضوعات مستنبطة، إلا أنّ الكثير من قضايا الحياة والمجتمع وحوادث الزمان لا نستطيع تشخيص التكليف أو المسؤولية تجاهها حتى لو فتشنا في كل الرسالة العملية. نعم، يوجد مبادئ وأصول وقواعد فقهية وأحكام عامة يمكن أن تساعد في هذا المجال. ولا شك بأنّ هؤلاء الفقهاء الأجلاء كانوا يستندون إلى شيءٍ من العلم؛ فمن المستبعَد أنّهم انطلقوا من محض الهوى والرغبة الذاتية في تشخيص هذا التكليف أو ذاك. فلا شك أنّ هناك قواعد معيّنة وأصول ومبادئ قد التزموا بها أو انطلقوا منها لتحديد التكليف، وهذا ما يدعونا إلى البحث في هذه القضيّة أكثر.
لقد ابتُلينا كمجتمعات موالية ومجتمعات محبة لأهل البيت بهذا النمط من الاستنباطات والآراء التي من المفترض أن تساهم في تقوية بنية هذا المجتمع لا أن تؤدي إلى اضطرابه وتشتّته. وفي الوقت نفسه، نحن بحاجة إلى معرفة القواعد التي ننطلق منها بشكل دقيق لتحديد تكليفنا فيما يتعلق بالحوادث الواقعة، وفي هذا المجال أجد أنّ هناك ثلاث مراتب أساسية للأصول والمبادئ التي يمكن أن ينطلق منها الإنسان لتشخيص تكليفه في حوادث الزمان:
المرتبة الأولىوالأدنى: هي ما نعبر عنه بالأحكام الشرعية أو القواعد الفقهية وهي ذات أهمية بالغة يمكن أن تساعد كثيرًا في تشخيص التكليف.
والمرتبة الثانية والأعلى: هي مرتبة القيم والمبادئ الأخلاقية، ونعبر عنها بالقيم ها هنا لأنّها ترتبط بالجوانب الاجتماعية بشكل أساسي. فقد يشخّص الفقيه أو العالم أو أي إنسان أنّ عليه العمل على تقوية الشعور القومي أو الوطني بالاقتدار الذاتيّ، وأنّ المسؤولية تقع على عاتقه في أن يجعل الناس يشعرون بأنّهم يقدرون على إنجاز الأعمال الكبرى أو تحقيق الاستقلال الوطني أو الدفاع عن الوطن أو القيام بإنجازات حضارية كبرى أو اختراع مجموعة من التقنيات المتطورة وما شاكل. فهو يرى انطلاقًا من رؤيته القيمية أنّ تكليفه في هذا المجال يتطلّب مثل هذا الأمر. هذه المرتبة أكثر وضوحًا وأكثر شمولية واتّساعًا من المرتبة الأولى، لأنّ مبادئها أكثر تأصّلًا وأقرب إلى الوجدان ولا تدخل في سوق القيل والقال مثل المسائل الشرعية التي يمكن أن يحصل فيها الاختلاف أكثر.
أمّا المرتبة الثالثة: فهي ما يمكن أن نعبر عنه بالأصول الاعتقادية أو الرؤية الكونية، التي تساعد صاحبها على فهم التاريخ والمجتمعات والزمان واستشراف المستقبل واكتشاف السنن الاجتماعية والتاريخية. فالقوانين الإلهية الحاكمة على حياة المجتمعات تساعد على تشخيص العدوّ من الصديق، وتحديد أهداف الأعداء، وفهم حقيقة دوافع المجرمين ومخطّطاتهم وتمدّ صاحبها بمثل هذه الرؤية الواسعة والنظرة العميقة، وهي أثبت من المرتبتين الأولى والثانية وأكثر إعانةً للإنسان على تشخيص التكليف، أو معرفة الواقع الذي يساهم في تحديد الموضوع الذي ينبغي تحديد تكليفه أو حكمه بدقّة.
فحين ينحصر تشخيص التكليف في إطار الأحكام الشرعية أو في إطار الرؤية الفقهية التقليدية السائدة، يُتوقع أن يحصل الاشتباه وأن تحصل الأخطاء التي تكون قاتلة أحيانًا، لأنّ هذا التراث الفقهي الموجود بين أيدينا لا يبدو أنّه يساعد كثيرًا أصحابه على تشخيص تكليفهم في الموضوعات الحسّاسة، لا سيّما الاجتماعية منها، لأنّه لم يكن على مدى سنين فقهًا سياسيًّا واجتماعيًّا؛ فالموضوعات الاجتماعية والسياسية لم تكن مطروحة على نطاقٍ واسع، وبالعمق والتدقيق المتعارف في الصناعة الفقهية. لذلك قد يشخّص الفقيه الحكم لموضوع غير دقيق، كما حصل في موضوع الدم مثلًا. في البداية حين كان يُسأل عن بيع الدماء، لم يكن يتبادر إلى ذهن الفقيه سوى ذلك الدم الذي كان يُستخدم في بعض المجتمعات الجاهلية كغذاء أو طعام وأنّهم كانوا يشربونه. بالطبع هناك أحكام شرعية تبين أنّ الدم نجس ولا يجوز بيع النجس. أمّا اليوم فإنّ موضوع الدم قد تغيّر، لقد اتسع وأصبح له أبعاد أخرى، حيث أصبح يُستخدم في نقله إلى المرضى وفي العمليات الجراحية وغير ذلك. فاختلاف الموضوع مع اختلاف الزمان أصبح يتطلب حكمًا جديدًا.
وكذلك الأمر بالنسبة لموضوع تحطيب الأشجار، الذي كان يقوم به الناس كمهنة وعمل لأجل تأمين زادهم من الحطب، لاستخدامه أو ربما لبيعه. وكان هذا العمل على مدى القرون الماضية جائزًا بلا إشكال، أمّا اليوم، فقد أصبح الإنسان قادرًا على تحطيب وقطع غابة بأسرها في يوم واحد نتيجة امتلاكه للأدوات التقنية الجديدة، وبالتالي إذا بقي التحطيب على جوازه، كما كان سابقًا، يمكن أن يكون ذلك مبرّرًا لبعض الأشخاص ليجوّزوا لأنفسهم قطع الأشجار الموجودة في الغابات العامة المشاعة ولا يجدون الإشكال في ذلك. لقد اختلفت القضية وأصبح هناك موضوع يرتبط بالغابات التي هي أساس الحياة والتوازان البيئي وتأمين الثروة القومية إلى جانب فوائد كثيرة أخرى، بحيث إنّ أي خلل في هذا النظام البيئي يؤدي إلى تدمير المجتمع وفقره. فهل يبقى هذا الجواز؟ لقد تغيّر الموضوع في هذه القضيّة ما استدعى تغير الحكم وتشخيص التكليف أيضًا.
لذلك لم تعد الأدوات التي كان يتعامل بها الفقيه في السابق لتشخيص التكليف، قادرة على إمداده بالقدرة الكافية للقيام بهذا الأمر، نتيجة هذا التغير النوعي في نمط العيش والتحولات الكبرى في هذه الحياة. والذين يريدون أن يستخدموا تلك الأنماط أو الأدوات الفقهية التقليدية القديمة لتحديد تكليفهم فيما يتعلق بقضايا الحياة المختلفة يمكن أن يقعوا في مثل هذه الاشتباهات. وقد حصل ذلك في موضوع المخدرات ويحصل اليوم في موضوع الغناء وغيره من الموضوعات نتيجة أنّ هذه الموضوعات تغيرت والأدوات التي استخدمها هذا الفقيه أو ذاك، لم تمكنه من إدراك هذا التحول النوعي والجوهري في الموضوع.
على صعيد القيم، نجد أنّ هذه القيم تترابط فيما بينها وفق منظومة ذات خصائص، ما يتطلّب اكتشاف هذه المنظومة. فإلى أي مدى يجوز أن نترك قيمة الاقتدار، التي هي قيمة مهمة، تتعارض مع قيم أخرى، كنبذ العصبية؟
إنّ شحن المجتمعات البشرية بهذا النوع من الاعتداد والاعتزاز الذاتي والشعور بالاقتدار قد يؤدي إلى تغليب الروح القومية أو تعزيز هذه الحالة العصبية، فيرى هذا المجتمع أنّه ينبغي أن يستغني عن المجتمعات الأخرى بالكامل، وأنّه هو أفضل من تلك المجتمعات، أو أنّه ينبغي أن يكون أفضل من المجتمعات الأخرى، ما يعني أنّ التسابق لن يكون تسابقًا مبنيًا على القيم؛ وسيؤدي في النتيجة إلى عدم استفادة الشعوب من بعضها بعضًا وإلى القضاء على التبادل الحضاري فيما بينها. فالكثير من الشعوب لا تكنّ العداء للشعوب الأخرى ولا تريد بها شرًّا.
مثل هذا الأمر سيؤثّر بدوره على تحقيق الاقتدار، لأنّ الكثير من الشعوب إنّما حصلت على الاقتدار لأنّها فتحت باب الهجرة واستفادت من الأدمغة والخبرات الخارجية وسمحت لهم بالعمل في داخلها. لذا، حين نعزز روح الاقتدار هذه، بمعزل عن القيم الأخرى، سنجد أنفسنا عالقين وسط قضية الاقتدار بدل أن نحقق هذا الاقتدار.
من هنا يحتاج الفقيه، حين يريد أن يشخّص تكليفًا على أساس القيم، إلى الانطلاق من المنظومة القيميّة وليس من القيم التي اكتشفها أو شخّصها بأنّها قيم مناسبة أو عظيمة فحسب.
أضف إلى ذلك، أنّ المجتمع الذي تتعزّز فيه روحية الاقتدار الذاتي إلى درجة الإفراط، سينسى عنصرًا أساسيًّا وهو الشكر. فأكثر الإنجازات الموجودة في العالم اليوم على الصعيد الحضاري والتكنولوجي والعلمي، إنّما كانت نتيجة هذا التبادل والاستفادة من الخبرات؛ فلو لم يعترف هذا المجتمع بإنجاز فلان من المجتمع الآخر ولم يعتقد بضرورة الاستفادة منه، لما تحقق له هذا التقدم وبنى عليه. من هنا، حين نعزّز هذا الاقتدار الذاتي انطلاقًا من الرؤية الناقصة للموضوع القيميّ، فإنّنا نعزز في نفوس أبناء هذا المجتمع جانب عدم الشكر والتقدير للجهود الأخرى.
من هنا نقول أنّه إذا أراد الفقيه أن يضمن لنفسه أعلى مستوى من الدقة في تشخيص التكليف، فإنّه يحتاج إلى ملاحظة هذه المراتب الثلاث وعدم الغفلة عنها. وباعتقادي، إنّ أبرز سبب وراء الأخطاء التي حصلت عند البعض في تشخيص تكليفهم وأدت إلى العواقب الوخيمة والفتن هي أنّهم حصروا أنفسم في مرتبة من هذه المراتب. فحضور جميع هذه المراتب عند الإنسان أثناء تشخيصه للتكليف هو الذي يضمن له رؤية أوضح للموضوعات وبالتالي تشخيصًا دقيقًا للتكاليف.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...