
هل يوجد خيار غير المقاومة؟
ماذا تحكي لنا انتخابات 2022
الكاتب والمفكر #السيد_عباس_نورالدين
مؤلف كتاب #على_طريق_بناء_المجتمع_التقدمي
تكرر في الآونة الأخيرة سؤالي إن كنت سأقترع في الانتخابات! كنت في البداية أتعجب من هذا السؤال، إلى أن تحول تعجبي إلى فهم أعمق لما يجري في الواقع. كنت أقول كيف يُطرح مثل هذا السؤال على شخص له في إثبات ولاية الفقيه وتأييدها كتابان وعشرات المقالات! لكن التأمل في طبيعة الذين كانوا يسألونني جعلني أعيد النظر في المقصود من سؤالهم وفي طريقة نظرهم وتفكيرهم في الأمور.
هؤلاء أُناس متدينون جدًا، يخافون الله ويوم الحساب ويعلمون أنهم سيُسألون يوم القيامة عن أي قرار يأخذونه؛ فما الذي يريدونه، ولماذا يستشيرون شخصًا مثلي حول قضية لا ناقة له فيها ولا جمل؟ ولم يأخذ التفكر وقتًا حتى توصلت إلى فهم حقيقة شعورهم هنا وما يقصدونه، وهم يعيشون مثل هذه الحيرة التي تبدو في الظاهر مؤشرًا على سذاجة وسطحية، لكنّها في الباطن صرخة متألم يئن من هذا الفساد الذي طال كل شيء في وطنهم الوحيد. يقول هؤلاء إذا كانت المقاومة لأجل طرد المحتل من الأرض وحمايتها من فساده، فلماذا نسكت عن الفساد الذي دمر أرضنا وخربها أكثر مما فعلته آلة الحرب الإسرائيلية؟! الصهيوني ألقى من القنابل في حرب تموز ما يعادل عدة قنابل نووية مجتمعة، لكنّه لم يفعل بأرضنا ما فعلته الكسارات التي يمتلكها النواب الفاسدون. فإذا كانت البيئة هي القضية الأولى في أي بلد، كما أكد ولي أمر المسلمين، فكيف نسكت عن جماعة أو تيار لن يترك لنا أرضًا صالحة نعيش عليها ولا مياه نظيفة نشربها، فضلًا عن نهب أموالنا وسلب خيراتنا طوال هذه السنين!
أجل، ما فعله فساد الطبقة الحاكمة في لبنان يفوق كل وصف، وربما نحتاج إلى عدة عقود من الجهد البحثي لجمعه وتدوينه وعرضه.
الكثيرون من الذين يتحدثون عن عدم مشاركتهم في الانتخابات المقبلة ليسوا سذّجًا ولا عديمي الشعور ولا مضللين بواسطة أجهزة الإعلام المشبوهة، بل هم أناس يبحثون عن خيارات أخرى إلا أنّهم لا يجدونها وسط هذا الانسداد العجيب في العمل السياسي والاجتماعي، ووسط هذا الاحتقان المزمن في تنظيم المشاركة في تقرير المصير.
الانتخابات النيابية، رغم أهميتها الفائقة في كل مرحلة من حياة لبنان، إلا أنّها لم تصل في لبنان إلى ذلك المستوى من التأثير بحيث يستطيع الناس أن يقولوا ـ كما يحصل في العديد من بلدان العالم ـ بأنّها تغير مصيرهم. وأكثر المشككين يتساءلون عمّا يمكن أن يحصل فيما لو لم ينتخبوا ويقترعوا. لعلهم بذلك يريدون توجيه رسالة ضغط إلى قيادات المقاومة تطالبها باتّخاذ مواقف أكثر قوة وجدية بخصوص الفساد المهلك.
فلماذا يحصل ذلك بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة المهمة؟
الأمر ببساطة لأنّ هؤلاء لا يجدون فرصة أخرى للتعبير عن سخطهم وألمهم. قالوا في الآية الشريفة المباركة {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَميعًا عَليمًا}،[1] أنّ مفادها هو أن الله يحب الجهر بالسوء إذا كان الإنسان مظلومًا. والمظلومية التي يعيشها الشرفاء في لبنان ليست بالأمر البسيط. ولا حاجة للحديث المفصل عنها في عصر انهيار الدولة ومعها كل شيء. لكن عدم المشاركة في الانتخابات ودعم قيادة المقاومة ليس هو الحل ولا الجهر الوحيد بالمظلومية. وأمرنا ومصيرنا وحياتنا لا يدورون بين أن نقبل بالفساد أو نرفضه، ولا بين أن نؤيد خط المقاومة أو نخذله، بل بين أن نقوّي المقاومة درجة أو عدة درجات.
المقاومة لم تصبح قوية بواسطة الانتخابات النيابية وأمثالها، بل عبر مشاركة ثلة مؤمنة مضحية وهبت حياتها لهذا الوطن في سبيل الله وقدمت الغالي والنفيس على مدى عقود! ثلة تفرغت لتقرير مصير البلد وقدّمت زهرة شبابها وأنفقت أنفس ما عندها! هكذا يكون تقرير مصير الأوطان، في العمل الجاد المثابر المستمر.
الانتخابات النيابية ليست كل شيء في المشهد الاجتماعي والسياسي الكبير أو في دائرة المسؤولية الاجتماعية وفي المشاركة السياسية. لذلك فإنّ الواقع الكبير لا يدور بين شرّين كما يمكن أن يكون واقع الانتخابات الحالية، شر الفساد وشر الاحتلال، حيث يحكم العقل بدون أدنى شك بضرورة اختيار أهون الشرين.
نعم، لو كانت حياتنا السياسية محصورة في يوم الانتخابات لكان حكم العقل والشرع والوجدان واضحًا. لكن المشاركة السياسية التي تحدد مصيرنا ومصير بيئتنا وبلدنا واقتصادنا هي أكبر وأوسع من الانتخابات. وهذا ما يفتقد إليه الخطاب السياسي الحالي، بل الأداء العملي لتنظيمات المقاومة في لبنان، حيث نجدها عاجزة عن استقطاب هذه الفئة الساخطة وتوجيه طاقاتها بالطريقة الإيجابية البناءة التي تثبت أننا نستطيع أن نحارب الفساد، ليس فقط في المجلس النيابي، بل في الكثير من شؤون المجتمع وقضاياه.
مشكلة هذا الخطاب هي أنه لم يستطع أن يوجد للكثيرين فرصًا للتعبير، بل للمشاركة القوية المتناسبة مع حجم المصيبة والأزمة التي يعانون منها. وقد تصبح الانتخابات المحل غير المناسب لهذا التعبير، فيخسر الجميع.
الاعتماد على طيبة الناس وعلى الطبيعة الطائفية للاصطفافات السياسية في لبنان كان هو الرصيد الأول عند العديد من المسؤولين والمهتمين الذين ما كانوا ليقلقوا على نتائج الانتخابات كثيرًا.
إنّ أعداء المقاومة هم من الصلافة والوقاحة والتكبر والازدراء ما يجعلهم حمقى إلى درجة العنصرية، الأمر الذي لا يحتمله ولا يقبل به أحد! ولكن ماذا لو قام هؤلاء بتغيير خطابهم وأسلوبهم، وبدل أن يشحنوا الأعصاب الطائفية ويشدوها نصبوا أنفسهم حماة للدولة العادلة والحكومة الشفافة والتيار العابر للطوائف؟
هل يمكن أن يحدث مثل هذا الأمر في لبنان الطائفي؟
كل شيء ممكن، والإعلاميون الذين يتدربون في ورشات المنظمات غير الحكومية يصبحون يومًا بعد يوم أشد مكرًا ودهاء، ليستغلوا أوجاع الناس وخلو حياتهم من المشاركة السياسية المناسبة، ويسجلوا أهدافًا موجعة في مرمى المقاومة الشريفة.
[1]. سورة النساء، الآية 148.

عن قوة لبنان في ضعفه... كيف نرى الضعف اللبناني؟
إنّ الانشطار الثقافي بين الطوائف اللبنانية مبني بالدرجة الأولى على صراع المكتسبات لا الحوار أو الصدام الثقافي. فلا يوجد أي نوع من الحوار الثقافي الجاد بين اللبنانيين، الذي يُفترض أن يبحث عن المشتركات (وما أكثرها) ويبني عليها الهوية الوطنية التي هي أساس قوة لبنان وتماسكه.

هل يمكن أن ننتصر على الطائفية؟
الطائفية في بلد صغير كلبنان أساس المصائب والبلايا. فأي إصلاح سياسي أو إداري سوف يرتطم بصخورها المنيعة ويتكسر متبعثرًا في الهواء كما يتبخر الماء. معظم اللبنانيين يرون المشكلة ويعرفون السبب، لكن من النادر أن نجد من يسمح لنفسه في دراسة هذه الظاهرة وتحليلها بعمق، عسى أن يجد لها حلًّا ومخرجًا.

فرصة الأحداث الكبرى المميزة.. لماذا يجب إنتاج الخطاب؟
غالبًا ما تكون الأحداث الكبرى ـ خصوصًا ذات الطابع التهديدي ـ فرصة مهمة للتعرف إلى عنصرٍ محوري في حركة المجتمعات والنهضات، وهو أمر قلما يُشار إليه في ساحاتنا الثقافية، يمكن أن نطلق عليه إنتاج الخطاب. ولعل المقصود من هذا المصطلح هو تلك الأدبيات والأفكار التي تظهر أبعاد قضيةٍ ما في الواقع المعاش، خصوصًا إذا كانت مرتبطة بالقيم والمبادئ الأساسية لأي جماعة بشرية. لكن تحول هذه الأدبيات إلى مستوى الخطاب يتطلب شيوعًا يظهر على الألسن والأذهان والشعارات.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...