
ماذا تعني الحياة الأسريّة للمسلم الواقعيّ؟
السيد عباس نورالدين
المسلم الواقعيّ شديد الاعتناء والانتماء إلى أسرته لأنّها نواة المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع. ولأنّها محل استقرار النفوس وراحتها، وهي نعمة إلهيّة لا مثيل لها في هذا العالم. ففيها يجدّد نشاطه البدني والنفسي لينطلق في آفاق الحياة كما أراد الله. ومن خلال الأسرة يُتاح له الكثير من الأعمال الصالحة التي تجعله صالحًا، بل قدّيسًا!
ولا يضحّي المسلم الحقيقيّ بأسرته في سبيل عمله، بل يجعل كل أعماله ومساعيه لخدمة أسرته قبل أي شيء؛ لأنّه إذا كان يريد خدمة مجتمعه الكبير، فعليه أن يبدأ من أسرته، بل هو أمر طبيعي أن يوصل الخير إلى عشيرته الأقربين أوّلًا.
ولا يفتخر هذا المسلم بالخروج من المنزل والابتعاد عن أسرته، بل يعتبر ذلك بحكم الاضطرار. فالأصل أن تتمحور حياة الإنسان وعيشه حول منزله؛ وعلى أساس ذلك يحدّد المكان الذي يقصده والوقت الذي يمكن أن يقضيه بعيدًا عن الأسرة، ويقدّر ما الذي يمكن أن يشكّله هذا الخروج عليها.
وكلّما استقرّت الأسرة مادّيًّا ومعنويًّا، توفّرت فيها أسباب الرقيّ المعنويّ والتكامل الروحيّ، وأصبحت أكثر عطاءً لمجتمعها، بدءًا من العطاء البشري وزيادة أفراد المجتمع، إلى كل أنواع الخدمات والأعمال الصالحة. ولهذا نقرأ ما ورد عن نبي الإسلام (ص) أنّه قال: "مَا بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ بِنَاءٌ أَحَبُّ إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وَأَعَزُّ مِنَ التَّزْوِيج".
ومرّة أخرى نجد هذا المسلم يصبّ أفضل جهده في أسرته، لأنّه لو وُفّق في تقديم أسرة نموذجيّة واحدة للمجتمع، لكان هذا الأمر أفضل له ممّا طلعت عليه الشمس وغرُبت. فالأسرة محل العطاء قبل أن تكون محل الأخذ والتمتّع.
ولأنّ الزوج هو مبدأ تكوين هذه الأسرة، فإنّ الاهتمام به يكون أوّلًا.. وحين يتمكّن الزوجان من بناء علاقة متينة تقوم على أساس المودّة والرحمة والتكامل، فسوف يكون نتاجهما مليئًا بالخير، ولا يحتاج الإنسان إلى العمل خارج المنزل ليحقّق ذاته، لأنّ تحقيق الذات يكون في صلاحها وبنائها على أساس تقوى الله تعالى، ولا يوجد في أعمال الدنيا ما هو أحبّ إلى الله من الاهتمام بالأسرة. ولهذا، لا يخرج المسلم الواقعيّ من بيته مهاجرًا ومجاهدًا إلّا ليدافع عن هذا المجتمع الذي تعيش فيه أسرته، وليحفظ ويصون البيئة الحاضنة لها. فهو يعلم أنّ المجتمع إذا وقع بيد الطواغيت فلن يبقى لأسرته بيئة مناسبة للعيش الكريم والحياة الطيّبة. وإذا لم يدافع عن القيم السامية للإسلام في مجتمعه، فلن يجد أبناؤه فرصة لتكوين أسرهم الطيّبة، لأنّ زوال الإسلام يعني فساد الناس وانحطاطهم. فأينما ذهب هذا المسلم، لا ينسى أسرته ويبقى همّها في باله.
ما يميّز هذا المسلم عن غيره أنه يضع البناء المعنويّ لأسرته في الأولويّة، وهو يعلم أنّ تأمين الحاجات المادّيّة ينبغي أن يكون دخيلًا في البناء المعنويّ. وحين يؤثّر الاهتمام المادّيّ سلبًا على معنويّات أسرته، يمتنع عنه مهما كان. فلا يمكن أن يقبل بإفساد أولاده ليرضوا عنه أو لأجل أن يتفاخر على الناس.
ولأجل تثبيت البناء المعنويّ، فإنّ هذا المسلم يؤمن بأولويّة ترسيخ القيم المعنويّة من خلال التربية. وإنّ أهم عنصر في نجاح التربية أن يكون هو نفسه مصداقًا لما يدعو إليه في الصدق والأمانة والمعنويّات والتوكّل على الله والصبر والفضائل.
إذا كان هذا المسلم رجلًا فهو لا يعتبر محلّه في الأسرة كملك مستبد، بل كمسؤول أمام الله عن كل ما أعطاه الله ووهبه. ولا يشغل باله في إثبات أنّه السيد المطاع الذي يخدمه الجميع، لأنّ السيّد الحقيقي هو الذي يخدم قومه. ولذلك يكون تنافس هذا المسلم الرجل مع زوجته فيمن يكون أكثر خدمةً وعطاءً.
وإذا كان المسلم هنا امرأة فهي لا تعتبر خضوعها لزوجها انتقاصًا لها واضمحلالًا لشخصيّتها، لأنّ شخصيّتها الحقيقيّة هي في خضوعها لله تعالى وفي التقوى، وهي تشعر بآثار ذلك في كل تفاصيل حياتها، سعادة وطمأنينةً ومعرفةً. فلماذا تشعر بالنقص وقد ملأ الله قلبها بنور ذكره بسبب تقواها وامتثالها لأمر الله وتجاوزها لأنانيّتها.
المسلمة الواقعيّة هي التي تؤمن بأنّ الزواج فرصة عظيمة للتكامل المعنويّ، وأنّ أهم عنصر في التكامل هو التخلّص من الأنانيّة التي يعبّر القرآن الكريم عنها بشحّ الأنفس، ويقول: {ْوَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}، وتعلم أنّ هناك من النساء من توفّرت لهنّ ظروف الانطلاق في آفاق الحياة الاجتماعية والمهنيّة فأصبحن صاحبات مراكز ومناصب وشهرة أو يتاح لهنّ السفر حيث يردن أو غير ذلك ممّا تعبّر عنه أدبيّات الغرب بتحقيق الذات، لكنّها عندما تتوقّف وتتأمّل في القيمة الواقعيّة لكل هذه الأشياء فلن تجد فيها شيئًا إلّا ما كان متّصلًا بالتقوى والمسؤوليّة الإلهيّة. فالقيمة ليست فيما يعتبره الناس، بل في إصابة التقوى ورعاية الأولويّات؛ ولا شيء أولى من الأسرة.
والمسلمة الواقعيّة لا تقارن بينها وبين الرجال من حيث فرص الحياة المادّيّة والاجتماعية لأنّها ترى نفسها داخل أسرتها مترعة بالفرص اليوميّة لتحقيق التكامل الواقعيّ. لهذا فهي فرحة مسرورة، لا تلوم حظّها ولا تبتئس من مشاغبات أبنائها ولا تكتئب من صعوبة تربيتهم.
لا يؤجّل الله ثوابه لعباده إلى الآخرة، بل يعطيهم منه طرفًا في هذه الحياة الدنيا كبشرى تطمئن بها قلوبهم، ولا شيء أجمل من نعمة متّصلة بنعمة الله التي لا تحصى. فالمسلم الواقعيّ لا ينخدع بما يصوّره له شيطان الغرب من بؤس الحياة الزوجيّة، لأنّ مثالها الإلهيّ محفور في ذهنه وقلبه وحاضر دومًا.
للمزيد من الاستفادة اشترك في قناتنا: كيف تسعد في حياتك الزوجية على الرابط التالي على التلغرام:
https://t.me/BaaHappy_marriage
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...