
المواعدة قبل الزواج.. سر نجاحه أو فشله؟
من كتاب شركاء الحياة
للكاتب والخبير في الشؤون الأسرية
السيد عباس نورالدين
حين ننظر في معدلات الطلاق بين المتدينين نتفاجأ، لأنّ التدين يُفترض أن يضفي على الشخصية الكثير من الخصائص والمميزات التي تساعد على تمتين أواصر الزواج. لكن هذه الصدمة سرعان ما تزول حين نلاحظ الأثر الواضح لانعدام الخبرة والتجربة على العلاقات.
يبدو أن نسبة ملفتة من حالات الطلاق هنا كان بالإمكان تلافيها لو كان هؤلاء الأزواج يمتلكون من المعرفة والدراية والخبرة ما يلزم لمعالجة الاختلافات. يمكن القول إنّ قلة النضوج في الشخصية غالبًا ما يجعل الشباب متسرعين في إنهاء زواجهم، رغم إمكانية إنجاحه. يعترف معظمهم بذلك حين يختبرون الحياة بعد مدة. هذا ما يجعلنا نميل إلى تعظيم الخبرة.
لا شك في حاجة الزواج إلى دراية ومعرفة لا تأتي بسهولة ولا تكون ميسرة لأغلب الشباب.. ولكن السؤال هنا هو في كيفية تحصيل هذه الخبرة والحصول عليها. فهل يجب أن نجرب حتى نتعلم من كيسنا كما يُقال؟ أو بالإمكان تحصيل ذلك من خلال الآخرين والاستفادة من تجاربهم؟
المجتمعات التي تعاني من ضعف التواصل بين الأجيال (مهما تنوعت أسبابه) هي التي يميل أفرادها إلى تكرار أخطاء السابقين. هنا لا يبقى سوى سبيل واحد لتلافي الأخطاء، وهو أن يبني كل فرد تجربته بنفسه. ومع خفاء طرق الاتصال بمصدر الحكمة الزوجية، يصبح الأمر مؤكدًا.
غالبًا ما تكون هذه التجارب ممتزجة بالمرارة والآلام، خصوصًا إذا بُنيت على تهديم كيانات (كالطلاق بعد زواج مديد). لذلك لن نتفاجأ إذا سمعنا مدحًا وتشجيعًا على المواعدة قبل الزواج. مثل هذا الأمر يبدو أنه حاجة ملحة في تلك المجتمعات. أجل، ليس من السهل رواج المواعدة في المجتمعات المتدينة؛ ولذلك فإنّ حديثنا لا يدور حول حرمتها أو حليتها، بل حول ذلك البعد القيمي فيها.
حين أسمع من يثني على المواعدة باعتبار أنّها تقلّل من التجارب الفاشلة والموجعة، وتساعد على بناء زواج متين، أنزعج.. استيائي يرجع إلى ملاحظة الجهل الكامن وراء مثل هذا التأييد. عادة المواعدة ربما لا تقل خطرًا عن الشذوذ الجنسي من حيث تأثيرها المدمّر على بنيان الزواج وقيمته في المجتمع.
المواعدة التي تبدو حاجة ضرورية في تلك المجتمعات، تعني أن يجرب الشباب الارتباط بكل أشكاله ومراتبه دون قيود الزواج الرسمي.. في المواعدة يُسمح لأي طرف بأن يلغي هذه الرابطة بأقل ما يمكن من الخسائر. قد يحدث الانفصال برسالة نصية، أو عبر شخص آخر، أو حتى بعدم الاتصال مرة أخرى. إنّها عبارة عن تجربة للزواج دون زواج، وذلك منعًا لمصيبة الطلاق وما يصحبه من أعباء مجهدة.
الذين يشجّعون على المواعدة، يعتبرون أنها السبيل الأوحد للتعارف العميق، ليس فقط تجاه الطرف الآخر، بل حتى تجاه الذات. ففي المواعدة يُقال بأنّ كل طرف سيكتشف نفسه ورغباته وميوله واحتياجاته ونظرته إلى الشريك وإلى الحياة الزوجية ومتطلباتها قبل أن يكتشف الآخر. وبهذه الطريقة سيكون قادرًا على اتخاذ الموقف المناسب والدقيق في زواجه.
رغم أنّ الإحصاءات لا تدل أبدًا على نجاح المواعدة في خفض معدلات الطلاق في المجتمعات التي تعتمدها كعرف أساسي، فإنّنا نرى المواعدة عاملًا سلبيًا على مستوى توفير الحكمة والمعرفة اللازمتين للزواج. إنّ تجارب المواعدة لا تراكم خبرات بقدر ما تراكم الجهل والضبابية والاضطراب.. وهكذا ستكون عاملًا لعزوف الشباب عن الزواج أو تأخير سنّه، بخلاف ما يُرجى منها.
بالنسبة لكل من يؤمن بقيم الحياة الاجتماعية وفلسفتها، يكون التشجيع على الزواج وإطالة أمد الحياة الزوجية عنصرًا محوريًا في بقاء المجتمع وحصانته وقوته وازدهاره على الصعد كافة. لذلك يجب أن نحاكم المواعدة من هذه الجهة أيضًا؛ وعلينا أن نُمعن النظر في الادّعاء القائل بأنّها مفيدة ومساعدة على إنضاج الشخصية اللازمة للزواج السعيد. وكما ذكرنا، فإنّ الأرقام والإحصاءات لا تدل أبدًا على التأثير الإيجابي للمواعدة على صيانة الزواج. أكثر حالات الطلاق هناك تقع بين زوجين كان لهما العديد من تجارب المواعدة.
ما يعنينا هنا أيضًا دراسة تأثير المواعدة على الجوانب النفسية المرتبطة بالعشرة الزوجية والنظر إلى الزواج ككل. ولا يخفى أنّ جانبًا مهمًا من نجاح أي زواج يرتبط بالقناعة التي تستلزم عدم رفع مستوى التوقعات من الآخر. وفي المقابل، فإنّ نسبة مهمة من حالات الطلاق ترجع إلى الخيبات الناشئة من توقعات عالية. أليس هذا ما تعدنا به المواعدة؟ أن نصل يومًا إلى ذلك الشريك المثالي لحياتنا؟
أحد اسرار القناعة ينبع من الاعتقاد بأنّ البشر مهما اختلفوا إلا إنّهم متقاربون من ناحية متع الحياة الزوجية ومتطلباتها (نفهم ذلك جيدًا إذا فهمنا الزواج جيدًا). لعل هذا ما أراد الإمام علي عليه السلام الإشارة إليه حين أوصى الشباب الطوامح بأن يُشبعوا حاجتهم من خلال شركاء حياتهم، باعتبار أنّ لها ما لها؛ أي أن أرض الواقع تقول بأن أهم ما يطمح إليه الشباب من الجنس الآخر سيجدونه بسهولة فيمن عندهم.
يصعب تقبل هذا الأمر حين ترتفع مستويات توقعاتنا من الجنس الآخر، وحين نعطي الزواج حجمًا أكبر مما هو عليه في الواقع. لقد شاهدت شبابًا يصرون على الزواج ممّن يشاركهم في أفكارهم العرفانية ورحلتهم السلوكية. ورغم جمال هذا التشابه وروعته، لكنّه أمر لا يُطلب في الزواج. صحبة السير والسلوك مهمة للغاية، لكن ليس بالضرورة أن تكون من خلال الزواج. كما أنّ نجاح الزواج لا يعتمد عليها.
إذا كانت المواعدة ضرورة لاكتشاف شريك الروح المزعوم، فإنّها على ما يبدو ستتكرر كثيرًا عسى أن نصل إليه يومًا! ولهذا، نجد أنّ معدل عدد المواعدات قبل الزواج في تلك المجتمعات، قد يبلغ العشرة والعشرين على أقل تقدير. فما الذي سينجم عن ذلك؟
كثرة المواعدة ويُسرها سرعان ما تُبدل رحلة البحث عن شريك الروح إلى رحلة الاستمتاع بأكبر قدر ممكن من الجنس (خصوصًا بالنسبة للذكور، وبالأخص بالنسبة لمن يجد الزواج مسؤولية مكلفة). هنا تكون ثقافة المواعدة جنة موعودة بالنسبة للشباب. وبسبب ذلك سيكون الزواج بعدها بمثابة جحيم السجن، حتى لو تم طلاؤه بالذهب.
فلنا أن نسأل: لماذا سيفكر الشباب بالزواج، إن كان بإمكانهم أن يستمتعوا بأنواع وأشكال من العلاقات السهلة تحت عنوان المواعدة؟ لن تكون المواعدة هنا مقدمة ضرورية لاكتساب الخبرة أو تحقيق التعارف العميق، بل مجرد وسيلة لإطلاق عنان الشهوة والاستمتاع، التي تبدو للناظر من بعيد أنّها مرح وفرح، في حين أنّها من أهم أسباب الشقاء والعناء!
حين يجرّب الشباب عددًا محدّدًا من العلاقات في الواقع العملي، وعددًا غير محدود منها في الذهن والخيال، فإنّ الصورة الواضحة لشريك الحياة المثالي ستصبح مشوشة للغاية. أكثر هؤلاء إذا تزوجوا فيما بعد، فليس لأنهم أدركوا شريك الروح المنشود، بل لأنهم تعبوا من المواعدات.
ما يبدو للوهلة الأولى أنّه تفوق للثقافة الغربية المروجة للمواعدة، يتّضح عند التأمل بأنّه أحد أهم عوامل الفشل والتعاسة والآلام. ونلفت النظر إلى أنّ الأمر لا ينحصر بالمواعدة، فالنزوع إلى العلاقات البعيدة عن الالتزام، ولو في عالم الخيال، هو العنصر الأول وراء عدم إدراك السعادة المنشودة في الزواج.. أجل، للمواعدة هذا التأثير الهدام، وذلك في فك كل القيود أمام هذا الخيال السارح. فطالما أنك غير ملزم تجاه من تواعده، ستجد نفسك محقًا في التفكير بغيره أثناء مواعدته. كيف يمكن للإنسان أن يدرك صفات هذا الآخر جيدًا وهو لا يراه داخل تجربة الالتزام، هذا الالتزام الذي لا يكون إلا في ظل الزواج؟!

الزواج في مدرسة الإيمان
ما هو الحب؟ وما هو الزواج؟ وهل الحب شرط لنجاح الزواج؟ هذا ما يجيب عنه هذا الكتاب بالإضافة إلى العديد من الأسئلة الأخرى التي تفرضها الحياة في عصر الإنترنت. فلننظر إلى الزواج قبل اشتعال نيران العشق وقبل انطفاء شعلة الحب. الزواج في مدرسة الإيمان الكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب:17*17غلاف ورقي: 264 صفحةالطبعة الأولى، 2016مللحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراؤه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:

ما مدى أهمية التوافق الفكري كمعيار لاختيار الشريك
بعض الشباب يضع التوافق الفكري شرطًا أساسيًّا ضمن معايير انتخاب الزوجة. وفي ظل هذا الشرط تسخف لديه اهتمامات الفتيات ويجد صعوبة في إيجاد الفتاة التي يتحقق فيها هذا الشرط إلى جانب شروط أخرى، برأيكم ما هي أهمية التوافق الفكري في الساحة الزوجية، وما هي تراتبية هذا الشرط ضمن سلسلة معايير اختيار الزوج والزوجة؟
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...