
هل يمكن أن ننتصر على الطائفية
وأين تكمن المشكلة؟
السيد عباس نورالدين
الطائفية في بلد صغير كلبنان أساس المصائب والبلايا. فأي إصلاح سياسي أو إداري سوف يرتطم بصخورها المنيعة ويتكسر متبعثرًا في الهواء كما يتبخر الماء. معظم اللبنانيين يرون المشكلة ويعرفون السبب، لكن من النادر أن نجد من يسمح لنفسه في دراسة هذه الظاهرة وتحليلها بعمق، عسى أن يجد لها حلًّا ومخرجًا.
كثيرون لم يميزوا بين الطوائف والطائفية، فاعتبروا أنّ تعدد الطوائف هو السبب، وربما دعوا إلى إلغاء الطوائف من خلال خدعة العلمنة التي لم تعد تنطلي على الأذكياء. فالعلمانية لن تضيف إلى لبنان سوى طائفة أخرى؛ إنّها دين له نظامه ورؤيته للحياة، وتتظاهر بأنّها ليست دينًا لكي تخدعنا بحصر المشكلة في الدين.
كم يمتلك العلمانيون من روح استبدادية بحيث يريدون أن يفرضوا على الناس أن لا يتحركوا ولا يعملوا ولا يفكروا انطلاقًا من معتقداتهم ورؤيتهم الكونية وقيمهم الدينية. يريدون تجريد المؤمنين من عقائد قد أمعنوا النظر فيها وتبين لهم صوابها وأهميتها في العمل السياسي والإداري. وبدل أن يؤسسوا للمجالات التي تتفاعل فيها الأفكار الدينية وغيرها من أجل الخروج بأفضلها وأحسنها، يريدون للإنسان الديني أن يخرج أي فكرة يراها مفيدة من رأسه.
لكن، إذا كان العلمانيون ضد التعصب وضد استخدام مراكز القرار المتسترة بالدين ومراكز القدرة الكهنوتية والتدرع بالأحجام العددية والإمكانات المالية، فهذا ما يُعد جوهر الدين الإلهي، الذي يدعو إلى منع الطاغوت من التحكم والسيطرة.
المستترون بطوائفهم والمستغلون لمشاعر أهلها والمستفزون للعصب الطائفي لا علاقة لهم بالدين في شيء؛ هؤلاء هم أعداء الدين والوطن الذين ينبغي لنا جميعًا أن نتضافر من أجل إزالة قناع التدين عن وجوههم ليُعرفوا على حقيقتهم البشعة؛ وأفضل وسيلة لذلك أن نرجع الناس إلى روح الدين، سواء كان الإسلام أو المسيحية.
لم تكن الاختلافات الفكرية والعقائدية يومًا عاملًا أساسيًا للصراع والحرب ـ بخلاف ما يتصور الكثيرون؛ ولو تأملنا في معظم الصراعات التي حملت شعارات الدين، لوجدنا أنها تخفي وقائع أساسية ترتبط بالمصالح المادية والدنيوية. لقد تم استغلال العقائد لأجل تصفية الحسابات ضد خصوم السلطة والجاه والثروة. حتى أولئك الذين ارتكبوا تلك المجازر في العصر العباسي على قضية خلق القرآن أو أزليته، فإنّهم لم يكونوا سوى أداة لصراع خفي يدور داخل الأسرة الحاكمة، تغذيه بواعث عرقية وقومية.
العقائديون الحقيقيون يعرفون قيمة الفكر والتعمق في دراسة العالم وسر الحياة، وهذا ما يشغلهم عن الصراعات الأرضية؛ فما يعيشونه أعظم وأجمل من كل هذه التفاهات الدنيوية؛ وأكثر ما يشوّقهم أن يلتقوا بمن يختلف معهم في الرأي ويناقشوه. فأين التقيت بمفكر ـ من أي طائفة أو مذهب كان ـ إلا واستقبلني بحفاوة، حين شعر أنني مهتم بالفكر والحقيقة مثله.
تأملوا في الذين رفعوا راية الدين لشن الحروب على المخالفين، تجدونهم سطحيين يعيشون التناقض الفاضح مع دينهم قولًا وعملًا. ولأجل ذلك، ينبغي أن نفتش عن سبب آخر وراء الصراعات والخلافات الدينية والمذهبية. وأغلب الظن أنّ الأمر مرتبط بالجانب الأخلاقي والنفسي الذي يصبغ حال معظم الناس؛ وعلى رأس ذلك تلك العصبية التي تتغذى من نزعة البشر الاستكبارية، وأنانيتهم التي تجعلهم يحصرون هويتهم في طائفتهم وقبيلتهم.
العصبية هي الباعث الأول لوضع الحدود والسدود بين الطوائف ومنع تواصلها، حيث التواصل والحوار أفضل طريق لحل مشاكل الوطن الذي يعيش فيه الجميع.
العصبية هي التي تعمي الأعين والبصائر عن حقيقة المشكلة وتمنع صاحبها من رؤية المتسببين الحقيقيين بالمشاكل والأزمات.
العصبية هي التي تجعل أبناء طائفة ما مستعدين لحماية ودعم المجرم السفاك والفاسد الآثم فقط لأنّ اشخاصًا من الطائفة الأخرى تضرروا منه أو أدانوه.
هنا يقول المتعصبون إننا إذا قبلنا بهذه التهمة وقمنا بالتخلص من المجرم في طائفتنا فسوف نجرئ الطوائف الأخرى علينا.
والتعصب هو الذي لا يسمح لهؤلاء بأن يروا مدى خطورة إيواء المجرمين ولو كانوا منهم؛ فالمجرم والفاسد أول ما يفسده ويضره نفسه ومحيطه. وهل هناك شيء أدعى إلى الدمار والهلاك من تأييد المجرمين وحمايتهم.
إن كانت الطوائف في لبنان ترجع إلى أديان سماوية ـ وهذا هو الواقع ـ فلا يوجد في أي دين سماوي ما يسمح بالظلم والفساد، حتى لو كان يُمارس على الآخر. وأي إنسان ديني يعلم أنّ الظالم وإن بدأ بالآخرين لكنه سرعان ما سيظلم أبناء طائفته.
المفسدون الكبار هم الذين تلاعبوا بالقيم الجميلة التي كان يؤمن بها أبناء الطوائف، وهم الذين تخلصوا من الصالحين والطيبين من طائفتهم (بل هذا أول ما فعلوه) واستبدلوهم بالأشرار والساكتين من رجال الدين وأمثالهم.
المفسدون الكبار لا يعرفون القيم والحقائق والفضائل، لأنّهم لا يعرفون إلا شيئًا واحدًا، وهو مصالحهم ولو اقتضت القضاء على الدين كله.
لكن ماذا نفعل بالعصبية التي أعمت الأبصار عن هذه الوقائع الواضحة الجلية؟ كيف يمكن أن نواجه هذا الداء العضال وننتصر عليه؟ هل يمكن لأبناء القيم في كل طائفة أن يجتمعوا ويدرسوا هذه الظاهرة المدمرة التي تقف وراء جميع مصائبنا؟
أول شيء نحتاج إليه هو العمل على إنتاج ثقافة واسعة تعالج قضية العصبية وتستلهم من عبر التاريخ وقيم الدين وحقائق الوجود، لأنّ الكثيرون من أبناء وطننا لا يخجلون من كونهم متعصبين ولا يدرون أنّ عاقبة كل عصبية هي العذاب المقيم في جهنم الغضب الإلهي.
نحتاج الى أدبيات عميقة بليغة شديدة التأثير تخاطب الوجدان والإنسانية في كل إنسان، وتتمكن من تجاوز الحدود والسدود الطائفية والمذهبية.فلا شك بأنّ في كل دين سماوي إشارات كثيرة وتعاليم بليغة حول هذا الداء العضال والمرض المهلك. فما الذي ينتظر الباحثين وأهل القلم من أن يلجوا هذا الميدان الأكبر الذي يكشف العلل والأدواء ويعيد الوجدان الأخلاقي إلى موقعه الحقيقي.
العصبية تعني التنكر للحق واتّباع الباطل فقط لأنّ الحق لغيرنا والباطل لنا. وهل هناك ما هو أضر على النفس والطائفة والجماعة والقبيلة من أن تتبع الباطل؟ إنّ الباطل كان زهوقًا، وكل من يسلك طريقه لن يصل إلى شيء سوى الخسران المبين.
فما أجمل أن تتمكن الأقلام الخلاقة والأفكار المبدعة من تصوير هذا المشهد الإنساني الواضح لكل من بقي في نفسه من الإنسانية باقية عسى أن نمنح الأوطان كرامتها المنزوعة.

كيف تم التلاعب بعقيدة المخلّص؟
إن كنّا نظن أنّ عقيدة مثل قضيّة المخلّص، الذي سيأتي لينجي البشرية من الظلم والفساد ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا، لن تكون عرضة لتلاعب الحكام والملوك ورجال الدين الملاحدة والمتضررين من الدين فنحن في غاية السذاجة.

تغيير المجتمع يتحقّق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان إلهيتان من أعظم الفرائض، حيث جاء في أحاديث أهل الذكر أنّ جميع أعمال البر إنّما هي كنفثة في بحرٍ لجّي إذا ما قورنت بهاتين الفريضتين العظيمتين، وأنّه بهما تُقام الفرائض.

وجدت الإسلام في أوروبا! هل يُطبق الدين الاجتماعي في أوروبا والفردي في بلادنا؟
محمد عبده مفكر إسلامي مصري من رواد النهضة العربية الذين واجهوا الغزو الثقافي الأجنبي وسعوا لتحقيق الإستقلال، نُسب إليه مقولة "وجدت الإسلام في أوروبا ووجدت المسلمين في بلادنا"، وقد شاعت هذه المقولة ونسبها كثيرون إلى شخصيات نافذة مختلفة، حتى صارت كالأحاديث الشريفة، تحدد عند العديد من المسلمين موقفهم من الحضارة الغربية.. فالإنسان الأوروبي بحسب هذه المقولة قد طبق الإسلام في حياته العمرانية والمدنية، وإن لم يفعل ذلك على مستواه الشخصي.في حين أنّ أهل بلادنا لم يطبقوا من الإسلام سوى ما يرتبط بحياتهم الفردية.فإلى أي مدى يمكن أن يكون هذا الكلام صحيحًا؟ وما الذي تنطوي عليه مثل هذه المقولات؟

تنشيط الحياة الفكريّة في المجتمع
لكلّ مجتمع أنماطٌ من الحياة قد تكون فاعلة ناشطة أو كامنة مخفيّة. وكلّما تنوّعت حياة هذا المجتمع وتعمّقت، كان المجتمع أشدّ قوّةً وتكاملًا وازدهارًا ودوامًا.

الشرط الأول للانتصار على إسرائيل.. لماذا يجب أن نعيد النظر في خطابنا السياسي؟
إنّ القوّة الهائلة المندفعة للحضارة الغربية هي أكبر عامل لتخريب الأرض وإفسادها. لا نحتاج هنا إلى شواهد كثيرة لإثبات هذا الأمر، فقد ملأ فسادهم البر والبحر والهواء، حتى وصل إلى الفضاء. هذه الحضارة التي قامت على الاندفاع المحموم نحو السيطرة والنهب وتكديس الثروات والتوسع وأكل العالم، تؤدي حتمًا إلى تخريب الأرض وتهديم كل ما يرتبط بالحياة الإنسانية الطيبة.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...