
فينيق يخرج من بين الركام
القوّة العظيمة الآتية لنساء مجتمعنا!
السيد عباس نورالدين
يشهد مجتمعنا ما يشبه الثورة الهادرة على صعيد انبعاث دور المرأة وازدياد مشاركتها في مختلف مجالات الحياة. تسجّل النساء معدّلات مرتفعة ملفتة على صعيد الدراسات العليا وتحصيل العلوم المختلفة. وفي ظلّ الاقتصاد القائم على العلم، المتوقّع أن يجلب ذلك الكثير من القوّة المضافة والإمكانات المتزايدة.. إلا إنّ هذا كلّه لا شيء إذا ما قورن بالشعور العارم الذي بات يسيطر على قطاعات واسعة من نساء مجتمعنا على صعيد الرغبة بالتحرّر وتحقيق الذات بعيدًا عن سلطة الرجل وهيمنة الذكور.
ورغم وجود العديد من الموانع التاريخية المستحكمة والعقبات النفسية المزمنة، فإنّ نساء اليوم بتن أكثر إصرارًا على تحدّي كل ما يمكن أن يقف أمامهن ويمنعهن من المضيّ على طريق المجد والاستقلال.
إنّ الانبعاث الطبيعيّ لهذه القوّة الاجتماعية ـ التي يُقال عنها بأنّها تمثّل نصف المجتمع ـ يحتّم علينا طرح الأسئلة التالية التي ترتبط بشكل أساسيّ بتوجّه هذه القوّة الصاعدة ونتائجها؛ فهل يمكن أن تقع هذه القوّة الصاعدة بأيدي من لا يعرفون كيفية استعمالها لصالح المجتمع وخيره؟ وهل يمكن أن تقوم قوى خبيثة باستغلال هذا الانبعاث لضرب الأركان الأساسية لهذا المجتمع، مثل الأسرة والدين والقيم الإنسانيّة الأصيلة. وما الذي ستجنيه المرأة من جرّاء هذا التحرّر؟
إذا انتقلنا إلى تجارب التحرّر النسائي في العالم، نلاحظ على سبيل المثال أنّ الانبعاث الكبير للقدرة النسائيّة في الغرب لم يواجه مثل هذه الأسئلة ولم يتعامل بوضوح مع تلك القضايا، وذلك لسببين أساسيين:
الأوّل، هو أنّ الحرية كانت قد أصبحت قبلها بوقت قصير قيمة ذاتية مطلقة في أدبيات الغرب ومعتركاته الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية.
والثاني: هو حيازة محورية الفرد في النظام الليبرالي على موقعية أبدية غير قابلة للنقاش..
كل هذا كان يجري بعيدًا عن دراسة النتائج والآثار والاستفادة منها في النقاش الفكريّ وتشكيل الخطاب؛ ذلك لأنّ إطلاق العنان للحريات الفردية، يُفترض ـ بحسب تلك الثقافة ـ أن لا يؤول إلا إلى نتائج حميدة، على قاعدة "دعه يمر دعه يعمل"، التي وسمت الرؤية الاقتصادية الرأسمالية للغرب طيلة القرون الماضية، مع ما نجم عنها من آثار سلبية كارثية.
إنّ الغرب يؤمن بالحرية كقيمة مطلقة، مهما كانت النتائج؛ وهو يعزو كل إخفاق أو مشكلة أو معاناة إلى وجود قيود على هذه الحرية؛ سواء تلك التي تفرضها الحكومات والأنظمة أو الديانات والقوانين.
وبالتأمّل في تجارب البشر على مدى التاريخ، نرى أنّه لم تكن القدرة ذات يوم تمثّل المشكلة الأساسية في أي مجتمع سواء كانت بيد الرجال على حساب النساء أو النساء على حساب الرجال أو بيدهما معًا، وسواء كانت تلك القدرات والإمكانات مادية أو بشرية، ذكورية أو أنثوية. وإنّما عانت المجتمعات دومًا من كيفية استعمال هذه القدرة التي كانت تحصل عليها بواسطة تسخير الموارد المختلفة.
إنّ استعمال القدرة في أي مجتمع وتوجيه الإمكانات يتأثّر، بل ينطلق من المنظومة القيمية السائدة فيه، والتي تشكل المحرّك الأساسيّ لقطاره. فحين تسود ثقافة العبثية والهيدونية والشهوانية والإباحية وتصبح غاية للنشاطات الاجتماعية المختلفة، فإنّ عجلة الإنتاج والاستحواذ على القدرة ستتّجه نحو صرف تلك الموارد بالاتّجاه الذي يتوافق مع تلك الثقافة. حتى لو كان المجتمع يتوافر على ثروات هائلة.
ولا شك بأنّنا كبشر، نتوق دومًا إلى المزيد من القدرة ونتعطّش للحصول على الكثير من الموارد والإمكانات، لأنّ فكرنا مبنيّ على اعتبار ذلك الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الأهداف والآمال. لكنّنا لو تأمّلنا قليلًا في التجارب التي خاضتها المجتمعات على هذا الصعيد، لوجدنا أنّ ما كانت تفتقر إليه دومًا هو أشياء أخرى، مثل الحكمة والرحمة. وأنّ الذي كان يعيق تحقيق المبتغيات الفطرية للبشر (كالحرية والسعادة والاستقلال) هو الاستخدام الخاطئ لتلك الموارد، لا نقص الموارد.
إنّ كلامنا هنا لا ينحصر في دائرة العنصر النسائي في أي مجتمع؛ فضرورة الاهتداء بنور الحكمة والحاجة الماسّة للالتزام بالقيم الإنسانية النبيلة، هو أصل أساسي عند الجميع لتحقيق الآمال الرفيعة والمقاصد السامية.. ولهذا فإنّ التهديد الذي يمثّله الرجال على المجتمعات بسبب فائض القوّة الذي قد يمتلكونه، لن يقل عن فائض القوّة الذي ستحصل عليه النساء ويزداد يومًا بعد يوم. غاية الأمر أنّ هذا التسارع الذي نشهده على هذا الصعيد سيأتي بتبعات أشدّ تدميرًا، إن لم يقترن بذلك الالتزام القيميّ؛ لا سيمّا إذا بُني هذا الاقتدار وتأسّس على حساب جماعات وشرائح وفئات أخرى في المجتمع. وهذا ما نشهده اليوم على صعيد جمهرة واسعة من النساء.
ففي هذا المعترك، الذي يسهل للنافذين الأجانب الخبثاء أن يعبثوا به، تتعالى الصيحات وتكثر الدعوات التي تخاطب النساء وتحرّضهنّ على ضرورة انتزاع حقوقهنّ من الرجال؛ وفي قلب هذه المعركة يتمثّل المصدر الوحيد للقوّة في الرجل؛ وهو أمر بعيد كل البعد عن الصواب. لأنّ مصدر القوّة الوحيد، وكذلك مصدر العزّة والازدهار والكمال، هو الله تعالى. ووفق هذا المعتقد، فإنّ طريق الوصول إلى القدرة لا يكون إلا بتقوى الله وطاعته وتطبيق إرادته وخطّته لحياة البشر.
حين يكون الحل الوحيد المطروح أمام المرأة في خوض شجار يتحوّل إلى نزاع بين كائنين يُفترض أنّهما خُلقا لأجل التكامل والتكافل والتراحم والتقارب، فإنّ النتائج السلبية والتداعيات الوخيمة ستمتد لتحيق بأهم أركان ثبات المجتمع وازدهاره، وهي قضية الأسرة.
في ظلّ تلك الدعوات التحرّرية، سيظهر الرجال للنساء في موقع المتسبّب الأوحد لكلّ مشاكلهنّ ومعاناتهنّ، وسيكون الحل الوحيد في الثورة والتمرّد والمواجهة. ممّا يعني شيئًا واحدًا وهو هدر الطاقات الخلّاقة والبنّاءة للجنسين في الكثير من المعارك التي لا طائل وراءها.
إنّ قيام بعض أهل الفكر بإسقاط التجربة الغربية على مجتمعاتنا بدأ منذ ما عُرف بعصر النهضة العربية؛ وإنّما نشأ ذلك لأسباب عديدة. إلّا إنّ دراسة وتحليل مشاكل المجتمع وأسباب انحطاطه وعوامل ازدهاره، ما لم تقم على أُسس معرفية وعلمية متينة، لن تزيدنا إلا جهلًا بالواقع والحل.
لقد كان لمعاناة المرأة في أوروبا والغرب أسباب ومناشئ تاريخيّة تتّصل بسياقات اجتماعية، تفاعلت فيها السياسة مع الدين المسيحيّ بطريقة لا تشبه بتاتًا ما جرى في مجتمعاتنا؛ وبالرغم من كل الظلم الذي لحق بالمسلمين نساءً ورجالًا على مدى التاريخ، بسبب تسلّط نزعة الاستبداد والأثَرَة، لم يكن ظلم النساء المسلمات بسبب التعاليم الدينية والأصول القرآنية. ومهما كانت سلطة الحكم شديدة ومستبدّة، فإنّها لم تكن قادرة على مواجهة ما يسمعه المسلمون كل يوم حول المنزلة الرفيعة لمريم بنت عمران وآسية زوجة فرعون اللتين ضربهما الله مثلًا للرجال والنساء في القرآن الكريم. وقس على ذلك عشرات الآيات الكريمة التي حفرت في وجدان المسلمين الكثير ممّا يرتبط باستقلال المرأة وحرّيتها في تقرير مصيرها؛ وكذلك الشواهد الكثيرة على حقوقها الاقتصادية، التي لم يعترف الغرب بها إلا بعد صراعات شديدة.
لقد انتفضت المرأة الغربية لانتزاع بعض حقّها الذي كان مسلّمًا في المجتمع المسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ لكنّ انتفاضتها هذه وقعت منذ الأيام الأولى تحت قيادة رجال وذكور كان لديهم أجنداتهم السياسية الخاصّة ومخطّطاتهم المرتبطة بتصفية حسابات قديمة مع الكنيسة. وكانت قضية المرأة ذريعة مناسبة لتسجيل النقاط وإحراج السلطات الكنسية التاريخية. فهل سمعتم حتى في أكثر الثقافات الإسلامية ظلامية عن كلام يصوّر المرأة كشيطان خبيث ومخلوق مدنّس. لقد تمّ إحراق آلاف النسوة في القرون الوسطى تحت إشراف الكنيسة المسيحيّة ورجالاتها على مدى امتداد القارّة الأوروبية تحت عنوان محاربة السحر والهرطقة؛ وفي الواقع كان الكثير من هذه الجرائم غطاءً لمواجهة هذا الانبعاث والتحرّر النسويّ.
لكن النتيجة التي شهدناها هي أنّ المرأة الغربية قد انتقلت من تحت سلطة رجال إلى تحت سلطة رجال آخرين. ففي الأمس كان المتسلّطون هم رجال الدين، وفي اليوم ها هم رجال الشهوة والإباحية والمال. أجل، يجب أن نعترف بأنّ رجال اليوم هم أشدّ مكرًا وخبثًا، لأنّهم يفعلون ذلك كلّه تحت عنوان تحرير المرأة وإطلاق العنان لقدراتها.
إنّ المعاناة التي تنجم عن استغلال جسد المرأة لأجل عبث الرجال وشهواتهم، لا تقل أبدًا عن المعاناة التي تحصل من جرّاء قمع المرأة وسجنها ومنعها من سلوك طريق الكمال في العلم والفضيلة والعمل والمشاركة.. ولكنّ الأمر عندنا لم يكن يومًا دائرًا بين هذا الخيار أو ذاك حتى نضطر لاختيار أهون الشرّين بتقليد التجربة الغربية وسلوك طريق الانحدار الناعم الذي ينتهي بمثل هذا الجحيم. فوسط هذين الشرّين يوجد طريق ثالث معبّد بأزهار الخير والصلاح والسعادة، وهو طريق التكامل بين النساء والرجال وتوجّههما معًا يدًا بيد لأجل بناء المجتمع التقدّميّ الحضاريّ المزدهر بالإنسانية والمحبة والتسامح. وفي ظلّ هذا التكامل يحتاج الجميع إلى عنصر الرحمة الذي يتوافر بكثرة في قلب المرأة وروحها وكيانها الأنثويّ المتألّق. وفي ظلّ هذه الرحمة تُبنى أركان البنيان الشامخ للحياة البشرية.
الرحمة التي نعرفها جيّدًا في الأمّهات اللواتي هنّ المظهر المتألّق للمرأة وعطائها وجمالها ولطفها. وهي التي تتمكّن من تحويل الإنسان التائه الحائر الضعيف إلى فرد مفعم بالثقة والثبات والقدرة والاندفاع؛ فهي رحمة تقوى على صنع المعجزات، لأنّها تجاوزت كل ما يمكن أن يُسمّى بالذات والأنا والأنانية والنسائية.
أجل هذا هو سرّ الاقتدار البشريّ.. حين يقرّر الجميع اللجوء إلى الكمالات الواقعية والتخلّي عن كل أشكال الأنا التي تسبّب كل أشكال المعاناة التي عصفت بالبشرية على مدى التاريخ.

روح المجتمع
كتابٌ يُعدّ موسوعة شاملة ومرجعًا مهمًّا جدًّا يمتاز بالعمق والأصالة لكلّ من يحمل همّ تغيير المجتمع والسير به قدمًا نحو التكامل، يحدد للقارئ الأطر والأهداف والسياسات والمسؤوليات والأولويّات والغايات المرحليّة والنهائيّة في كلّ مجال من المجالات التي يمكن أن تشكّل عنصرًا فعّالًا في حركة التغيير، على ضوء كلمات قائد الثورة الإسلاميّة المعظّم روح المجتمع الكاتب: الإمام الخامنئي/ السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 19*25غلاف كرتوني: 932 صفحةالطبعة الأولى، 2017م ISBN: 978-614-474-020-0 سعر النسخة الملوّنة: 100$سعر النسخة (أبيض وأسود): 34$ للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراءه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:

قضايا الحياة الكبرى
حين تبدأ بالإحساس بوجود مجتمعات بشريّة ذات هويّات متعدّدة تعيش فيما بينها تفاعلًا قويًّا، وحين تدرك طبيعة هذا التّفاعل الذي يتّخذ سمة الصّراع في العديد من الموارد، وحين تكتشف مفاعيل ونتائج هذا الصّراع؛ فأنت إنسانٌ حيٌّ شاعرٌ مدرك. وهنا، ستحتاج إلى أن ترتقي بوعيك إلى المستوى الأعلى، حيث تفهم طبيعة ما يتولّد عن هذا التّفاعل الكبير من قضايا ـ تكون بمنزلة محدِّدات المسارات الكبرى.

متى تُخفق المرأة؟
حين يغفل أي مسلم عن المهمّة الأولى لدينه، فلا يُتوقّع أن يدرك روح الإسلام في حياته. ولهذا، فإنّ استحضار الموضوع التربويّ في الإسلام والشّعور الدائم بوجود هدفٍ تكميليّ من وراء جميع أحكامه وفرائضه يمّثل الفرصة الكبرى لكلّ مسلم يريد أن يعيش روح الإسلام.

القوّة الحقيقيّة للمرأة (للنساء فقط)
المرأة القويّة ذخرٌ وكرامة للمجتمع. وكل من يسعى لإضعافها فإنّه يعمل على إضعاف المجتمع نفسه بذكوره وإناثه. القوّة للمرأة حصانة وصيانة، والمرأة الضعيفة عُرضة لكلّ أشكال الأخطاء. لكن أين تكمن القوّة الحقيقيّة للمرأة؟ وكيف يمكنها أن تحصل عليها؟
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...
مجالات وأبواب
نحن في خدمتك

برنامج مطالعة في مجال الأخلاق موزّع على ثمان مراحل
نقدّم لكم برنامج مطالعة في الأخلاق على ثمان مراحل