
دروس لم نتعلمها من الصراع
في محاولة لفهم أسباب الهزيمة وعوامل النصر
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب أي مجتمع نريد
ما زالت قضية فلسطين عابقة بالدروس التي تنادي أهل الوعي والبصيرة لاستخراجها وتقديمها. قضية فلسطين تُمثل اليوم الباب الأوسع لفهم واقع العالم ونظامه الدولي.
صحيح أن الصهاينة حين اجتاحوا فلسطين قبيل النكبة كانوا مدفوعين بوعود الدعم الغربي والشرقي المطلق، لكن قوة شعوبنا في ذلك الزمان كانت أعلى مما هي عليه اليوم، وأعلى مما ستكون عليه حين التحرير الأكبر، وذلك طبعًا إذا قارناها بقوة الأعداء.
في البعد المادي، نحن ازددنا قدرة وكذلك أعداؤنا، لكن فارق القدرة المادية اتسع لصالح هذا العدو بصورة كبيرة.. لنفترض أن قدرات شعوبنا العسكرية والتسليحية اليوم تساوي عشرة وقدرات أعدائنا تساوي مئة، فإن تفوُّق هذا العدو نسبيًّا كان قبيل النكبة أقل مما هو عليه اليوم. القدرات المادية لشعوبنا قبيل النكبة كانت بمثابة عشرين إلى مئة (من باب المثال لا الدقة). فارق القوة العسكرية والبشرية والمادية لم يكن هو العامل الحاسم في سيطرة اليهود على فلسطين، وإنما كان العامل في شيء، يتجنب الكثيرون الحديث عنه وإثارته فضلًا عن إدراكه، وهو فارق الوعي الاجتماعي السياسي الحضاري.
لقد كانت شعوبنا على الصعيد السياسي في حالة من السذاجة التي يمكن أن تُلهم كبار منتجي الكوميديا في العالم، وكان الغزاة في المقابل على درجة ملفتة من الوعي لمشروعهم وأهدافهم وهويتهم وموقعهم.
كانت شعوبنا تفتقد الحد الأدنى من الوعي لأي مشروع حضاري أو فهم لما يجري في العالم على صعيد صراع القوى ومؤامراتها؛ ولذلك كانت أبسط الحيل تنطلي عليها. السذاجة كانت قد وصلت إلى حد عدم إدراك تأثير الأسلحة والقدرات المادية للآخر؛ فكان التهديد بقصف بيروت من برلين يُحدث رعبًا في الأوساط، وسيطر الخوف على البلاط الحاكم في طهران، بعد تهديد الإنكليز بقصفهم من سواحل الجنوب التي تبعد أكثر من ألف ميل!
لا مبالغة إذا قيل بأن فلسطين تم احتلالها بواسطة الشائعات لا الحملات العسكرية.
بمعزل عن دراسة وتحليل العوامل التي أدت إلى هذه السذاجة والسطحية وانعدام الوعي السياسي وافتقاد المشروع الحضاري عند شعوبنا، وكذلك في المقابل ذلك التفوُّق النوعي عند الأعداء في هذه القضايا، يبدو أن الصهاينة استمروا بممارسة هذه اللعبة ضد المسلمين العرب مدة طويلة.. ما زال العديد من فصولها حاضرًا في ذاكرتي من أيام طفولتي.
يتذكر من هم في جيلي المناشير التي كانت ترميها الطائرات الإسرائيلية.. دراسة وتحليل مضامينها السخيفة البعيدة عن الواقع، كافية لتأكيد ما نحن بصدده، دون أن نغفل عما كانت تُحدثه تلك المناشير من أثر في النفوس والرأي العام.
كل هذا أصبح من الماضي، فالوعي انبعث والسذاجة اختفت تقريبًا والاستهزاء بالعدو أصبح رائجًا حتى بين الصغار. لكن هل يعني ذلك أن الهوة بين وعينا ووعيهم قد رُدمت؟ أو أنهم ازدادوا وعيًا مع ارتقائنا فيه، وبذلك حافظوا على عنصر التفوق والانتصار الأول، بالرغم من كل هذا التقدم؟
الأمر إذًا لا يتعلق بوجود الوعي أو بدرجته ومستواه، بل بالفارق بيننا وبينهم، لأن الوعي كان ولا يزال يشكل العامل الحاسم في الصراع. يدرك ذلك كل من فهم التاريخ ودرسه وحفظ تجاربه.
أما الذين كتبوا التاريخ لأغراض الدعاية وكيّ الوعي وتبرير التقصير والاختباء وراء الأمجاد التليدة، فلا يمكن لهم إلا أن يسطروا لنا مجريات وقائع القتال وأعمال الأسلحة والقصف والقتل، وبحسب سردياتهم ستكون حرب 1967 وحرب 1973 معارك دبابات وقصف طائرات وعبور خطوط، حيث يُلقي الغرب بثقله العسكري وراء الصهاينة تاركًا العرب الضعفاء المساكين لمصيرهم المشؤوم.. لكن الذي كان يجري في الواقع هو عملية عجيبة من استغفال الشعوب ومعها جيوشها.. فوعي الجندي لم ينفصل عن وعي شعبه يومًا. وكما كانت الشعوب تُصدق الشائعات التي تبثها إذاعات ومناشير، وتنطلي عليها دعايات أنظمة مستبدة مذعورة، كان الجندي كذلك يظن أن العالم كله قد هجم عليه وأنه يقاتل كل قوى العالم، هذا في الوقت الذي كان عدوّه المباشر خائفًا مرعوبًا، يتحسّب لانتهاء ذخيرته في أقرب وقت!
لو كان الوعي الموجود اليوم مع فارق القوة المادية بالأمس، لما كان لليهود أن يحتلوا فلسطين ويسيطروا عليها ويهزموا جيوش أنظمة متعددة. هذا ما نحتاج إلى معرفته جيدًا. لكن ما نحتاج إليه أكثر هو أن هذا العدو قد بذل جهدًا كبيرًا على مدى هذه السنين للحفاظ على الفارق النوعي في الوعي. ويبدو أنه قد نجح إلى حد ما، لأسباب عدة. منها أن قسمًا مهمًّا من الذين يُفترض أن يوجهوا أو يصنعوا الوعي في مجتمعاتنا ما زالوا عالقين في الماضي، ومن خرج منهم إلى الحاضر قليل، أما الذين ذهبوا إلى المستقبل فأقل القليل. والوعي الحقيقي، وإن كان يتشكل من عِبر التاريخ وفهم الحاضر، لكنه يرتبط بشكل أساسي بفهم المستقبل واستشرافه. وهذا ما يتطلب منهجًا جديدًا بأدواته وأساليبه.
لا شك بأنّ الكيان الصهيوني ليس سوى أداة بيد الغرب، والتعبير عنه بأنه قاعدة عسكرية أمريكية أوروبية في قلب العالم المسلم ليس فيه مبالغة. لكن يجب الاعتراف أيضًا بأن الصهاينة يبذلون جهدًا ملحوظًا ليكونوا أفضل خَدمة لأسيادهم. فهم عمال مهرة في مجالات ترتبط بمشروعهم، عملوا منذ البداية على تأمين مستلزمات المهارة والتفوق، وكانوا واعين تمامًا لدورهم هذا.
في المقابل نسأل أدبياتنا في هذا الصراع عن مدى وعيها لهذه القضية وعن برامجها في توعية الشعوب تجاهها. اعتبار الغرب للكيان الصهيوني كأداة لتمزيق المسلمين والقضاء عليهم والتنكيل بهم وسلب ثرواتهم واستعبادهم وتحقيرهم، هل يقابله وعي ومشروع بمستواه وحجمه؟
فهذا الوعي الذي نبحث عنه هو الذي يُفترض أن يتجلى في فهمنا للصراع باعتبار أنه صراع حضارات فُرض علينا، وأنّ كل تجنُّبٍ لهذا الصراع وتجاهلٍ لطبيعته هو الذي يحرمنا من إمكانية فهم المستقبل وردم الهوة النوعية في الوعي.
فهم الصراع يتحقق بمعرفة مناشئه وإدراك سيرورته حتى نرسم خط سيره نحو المستقبل. وهذا ما يجعلنا نطرح الأسئلة العميقة التي نحتاج إليها، إن أردنا إيصال الوعي العام إلى المستوى المطلوب للانتصار، مثل السؤال المرتبط بحاجة الغرب وإصراره على معاداة الإسلام إلى درجة القَسَم الأعظم بأن لا يسمح للأمة المسلمة بالاتحاد والازدهار؛ ومثل السؤال المتعلق بانفتاحه علينا وسماحه لنا بالاستفادة من إمكاناته المختلفة.
لو كان وعي اليوم حاضرًا في بدايات وإرهاصات النكبة لما كانت هذا النكبة لتحصل من الأساس. لقد مر وقتٌ طويل قبل النكبة شهد كل ذلك التخلف الفكري والسذاجة السياسية وانعدام الوعي الاجتماعي، حتى جاء الغزاة مدجّجين بالأسلحة المتطورة والتفوُّق المادي.. ولا يختلف زماننا هذا عن ذلك الزمان فيما يتعلق بهذه القاعدة أو السُنّة، فإننا إن استطعنا اليوم أن نتفوّق في الوعي لصار بإمكاننا منع حدوث الآتي المشؤوم أيضًا.
أجل، لقد تمكن أعداؤنا من تدمير العديد من البُنى والقواعد التي نحتاج إليها لتحقيق الوعي والاتحاد، فهم لم يكتفوا بارتكاب الجرائم والسلب والنهب والاغتصاب، بل جاؤوا هذه المرة مع وعي بنقاط قوتنا والقابليات التي كانت لدينا وأمعنوا في تدميرها وشلها وإزالتها من الوجود. لكن هذه الأمة تُثبت اليوم أنها ما زالت تحتفظ ببعض البُنى والاستعدادات التي يمكن إقامة صرح الوعي العالي عليها.

على طريق بناء المجتمع التقدمي
المجتمع التقدّمي هو المجتمع الذي يتحرّك أبناؤه نحو قمم المجد والفضيلة والكمال.المجتمع التقدمي هو التعبير الأمثل عن استجابة الناس لدعوة الأنبياء الذين أرادوا أن يخرجوا البشرية من مستنقع الرذيلة والحيوانية والعبثية لإيصالها إلى أعلى مراتب الإنسانية والنور..فما هي سبل إقامة هذا المجتمع؟وما هي العقبات التي تقف في طريق تحقّقه؟ على طريق بناء المجتمع التقدّمي الكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتبحجم الكتاب: 14.5*21عدد الصفحات: 376الطبعة الأولى، 2019Isbn: 978-614-474-081-1السعر: 14$

تحرير القدس ليس آخر العالم!
بالنسبة للذين وُلدوا في أيّام النّكسة وشهدوا الهزائم الكبرى وعاينوا تجبّر الكيان الصهيونيّ وأدركوا أنّ هذه الدويلة المزعومة ليست سوى قاعدة متقدّمة للغرب في قلب بلاد المسلمين، فإنّ القضاء عليها أو زوالها سيكون أكبر من الحلم.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...