
هل نكرّم الشهداء حقًا؟
حين تكون الكرامة عنوانًا للتكريم
إنّ ظاهرة التكريم التي تقوم بها شعوب العالم كلها تدل على أنها أمرٌ فطري وأنّ التكريم يصبح أكثر انتشارًا في المجتمعات الحرة والمستقلة، ويقل بصورة ملفتة في الشعوب المقموعة والأنظمة ذات النزعة الاستبدادية.
التكريم هو انفعال فطري وتوجه مغروز في الطبيعة الإنسانية قبل أن يكون فعلًا واعيًا لمصلحة عليا. إنّ تكريم الإنسان الذي يتمتع بأي نوع من العظمة في نفسه أو صفاته أو فعله هو تعبير عن الشكر والتقدير لما يمثله وما يجلبه من منافع. ويتعاظم التكريم كلما ساد الاقتناع بعظمة الخدمة أو الدور أو الصفة (حتى لو كانت وهمية).
وعلى المستوى العقلائي، يتجه المسؤولون وأصحاب القرار نحو التكريم باعتبار أنه يدفع بالبرامج والخطط قدمًا من خلال التشجيع على قيم تُعد أساسية في نجاحها، فيتم تكريم الجندي الفدائي لحاجة المؤسسة العسكرية إلى هذا النوع من الأعمال البطولية لسد الثغرات الملحوظة في عتادها أو عديدها، ويتم تكريم الموظف الأمين لحاجة الشركة إلى الأمناء للحفاظ على ودائعها وبضائعها، ويجري تكريم المعلم الأول لكيلا يستخف المعلمون بدورهم في ظل تدني أجورهم. أما تكريم الفنانين والممثلين، فقد يكون لأجل الترويج لنتاجاتهم نفسها (لاحظ كيف نهتم بمشاهد فيلم ربح بطله جائزة الأوسكار!).
إنّ الدواعي هنا كثيرة، لكنّها تندرج جميعًا تحت التفكير العقلائي، وهذه العقلانية تُعد ركيزة أساسية لنجاح الأعمال والمشاريع، وهي جزء لا ينفك عن بقية أجزاء العقلانية الإدارية والتخطيطية والتنظيمية. فحين تجد شركة لا تكرم العاملين المميزين فيها تعلم أنّ هذه الشركة تعاني على صعيد بقية العناصر الإدارية.
لقد سادت في مجتمعنا ثقافة تكريم الشهداء بصورة ملفتة، بمعزل عن مدى عمقها وإبداعها ومنطلقاتها. ونحن نريد هنا أن نحلل هذه الظاهرة بطريقة نقدية من أجل تعميق النظر إليها لاستخراج مكنوناتها وتفعيل عناصر قوتها الكامنة، لكن قبل أن نقوم بعملية التحليل النقدي هذه، من الضروري أن نفهم جيدًا ما تعنيه الشهادة وما تتضمنه من مفاهيم أو حقائق. ويجدر بنا أولًا أن نشيد بالتفرد الإسلامي بهذا المصطلح الذي بات غير الإسلاميين يستخدمونه دون وعي لمدلولاته، مثلما يفعل المعربون لمفردة المارتير الإنكليزية. فمن الواضح جدًا أن مصطلح الشهيد هو إبداع إسلامي يرجع إلى ما تتضمنه كلمة الشهادة من معنى يرتبط بحقائق وجودية تقع في مركز الرؤية الكونية الإسلامية، وهي قضية شهود الحق المتعال وإمكانية ذلك بالنسبة للإنسان (لا بل ضرورة حصوله عند لقاء الله وفي مقام قربه، الأمر الذي يُعد هدف السير المعنوي والحقيقي للإنسان المؤمن).
الشهيد هو الذي ينظر إلى وجه الله، هذا هو مقامه ونصيبه؛ وإن كان له دور الشهادة على الأمة أو المجتمع أو بعض الأفراد (بحسب اتساع دائرة شهادته التي لها كلام آخر). هذا ما صرحت به الرواية المنقولة عن نبي الإسلام الأكرم، ولا أتصور أنّ هناك من يخالف هذه الحقيقة والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةْ}.[1] كل ما في الأمر أنّ هناك من يناقش في طبيعة الرؤية لا في أصل حصولها.
إنما وصل الشهيد إلى هذا المقام فصار يشهد الرب المتعال بعين قلبه شهادة يقين أقوى من مشاهدة المحسوسات والماديات، لأنّه خرق الحجب واقتلع الموانع التي تحول بين الإنسان ومشاهدة الحقيقة المطلقة المحيطة بكل شيء، والحاضرة بقوة في كل شيء ومع كل شيء وقبل كل شيء؛ الحقيقة التي يُفترض أن يشاهدها كل إنسان، لولا ذلك الإقبال والانشغال بهذه الدنيا الفانية المحدودة. وإنما ينشغل الإنسان بهذه الدنيا لأنه يراها زينةً وكمالًا لنفسه. فيرجع الأمر إلى رؤية النفس وحبها والأنانية. حتى إذا تحرر هذا الإنسان من ذلك وأعتق نفسه من أسر الدنيا، كما قال أمير البيان عليه السلام: "أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا"،[2] خرج من تلك الحجب وصار شاهدًا وشهيدًا. ومن الواضح أنّ هذا الانعتاق إنما يتحقق من خلال عملية فكرية قلبية، تعين عليها مجاهدات ورياضات روحية وعملية. فالحجب كلها ترجع إلى توهّم الكمال في الدنيا، ولولا ذلك لما أقبل الإنسان عليها. والتحرر كله إنما يكمن في سقوط هذه الأوهام، فمن زالت أوهام الدنيا في نظر قلبه صار شهيدًا حتمًا ولن يكون بحاجة إلى أكثر من ذلك، "عميت عين لا تراك عليها رقيبا!"
أجل، حين يستفحل مرض حب الدنيا في القلب بحيث لا يعود مجرد التفكر وتخيل وضاعة الدنيا وحقارتها ولا شيئيتها ينفع ويؤدي إلى ذلك التحرر ـ كما نلاحظ في أنفسنا مرارًا ـ يحتاج الإنسان إلى مجاهدات عملية يُعبّر فيها عن هذا الانعتاق وذلك الرفض، فيعمد إلى التخلي عن زخارفها وبهارجها وزينتها ومتعلقاتها.. وهذا ما يقوم به المجاهد في سبيل الله حين ينزل إلى ساحات الوغى وميادين الفداء. ولا شيء أصدق من هذا التعبير، لأن عرض النفس على القتل لهو دليل واضح على رفض الأصل الذي ينبعث منه حب الدنيا؛ وهو هذه النفس وحبها بالمعنى السلبي المذموم.
إنّ المجاهد الثابت القدم في طريق الجهاد الذي يكرر النزول إلى الميادين مرة بعد أخرى ويلتزم بمقتضيات الجهاد في سبيل الله هو الذي يطبق برنامجه أو يقضي نحبه بتعبير القرآن الكريم، وبذلك يكون من الصادقين. وهكذا يكون كل مجاهد حقيقي شهيدًا واقعيًا.
من هنا إذا أردنا تكريم الشهداء حقًا، فلا ينبغي أن نحصر التكريم بالذين قُتلوا على هذا الدرب، لأن عملية القتل ليست أساسية في تحقيق ذلك التحرر والانعتاق؛ بل هي فعل إلهي يجري على بعض المجاهدين لمصالح لا يعلمها إلا الله تعالى ومن شاء. أجل، قد يفقد المجاهد هذه الشهادة لأسبابٍ عدة؛ منها ما يرجع إلى انشغاله بهذه الدنيا بعد قضاء نحبه وأداء تكليفه، سواء كان هذا الانشغال بسبب عوامل الإغراء والجذبة الدنيوية، أو بسبب شدة اهتمامه بإدارة ظاهرها وحسن تدبيره لها وما يتطلبه ذلك من توجّهٍ إلى عالم الكثرات (التي هي بمثابة الضد لوجه الله تعالى). ونتذكر هنا تلك الحادثة المروية عن بعض أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه وآله الذين كانت تعرض لهم حالات من الشهود في محضره المبارك وكانوا يفقدون ذلك بعد رجوعهم إلى الأهل والعيال حتى ظنوا أنهم يعيشون النفاق، فأخبرهم رسول الله أنّ ذلك لم يكن من النفاق،[3] إلا إنّ استمرار هذه الأحوال وتكاملها حتى الاتصال الحي المباشر بعالم الملكوت يتطلب نوعًا من الثبات والإصرار على تلك الحالات والمجالس.
إنّ رسوخ قدم بعض المجاهدين الشهداء في الجهاد لا يكون قويًا، فينسون ما شهدوه في جبهات القتال، ذلك لأن تحررهم لم يكن بالمقدار المطلوب؛ مثلما يحصل لصاحب المنام الذي ينسى تمامًا ما كان يشهده في عالم الرؤيا حين صعدت نفسه إلى ملكوته، بعد يقظته مباشرة. كما أنّ بعض المجاهدين الشهداء ولشدة اهتمامهم بتدبير شؤون الجهاد وإدارته وما يستلزمه ذلك من التوجه إلى عالم الكثرات (وما أكثرها في الجهاد) يُعفون من هذه الشهادة رغم أنها تكون بمتناول أيديهم وفي قبضتهم، وذلك لمصلحة استمرار الجهاد وفتح أبوابه. (تصور لو أن هذا المجاهد استغرق في أنوار الشهادة، فما الذي سيرجعه إلى عالم الطبيعة والدنيا بعدها؟!).
وباختصار، إن الشهادة ليست موقوفة على القتل أبدًا ولا مدخلية حقيقية للقتل في تحققها، بل المدخلية هي في الإقدام على القتل والاستعداد الصادق لبذل النفس سواء حصل القتل أو لم يحصل.. نعم، نحن المتفرجون من بعيد، نطمئن لمصير من قُتل على هذا الطريق، ومع حسن الظن بسلوكه والرجاء يحق لنا أن نُطلق عليه عنوان الشهيد، ونتردد في إطلاق هذا العنوان على كل مجاهد لأسباب وأسباب. وهكذا يدخل التكريم في دهاليز عقائدنا وتصوراتنا وتحديداتنا للأمور، ومع عجزنا عن تحديد شهادة هذا المجاهد أو ذاك نصل إلى حد إفقاد الشهادة معناها، فنسمح لكل عابث أن يُطلق هذا العنوان الإلهي المقدس على أي شخص يُقتل. وهكذا تضيع الحقائق وتتشابك المفاهيم ويكون الخاسر الأكبر قيمة الشهادة الواقعية. ومع دخول عناصر أخرى من الأهواء، نقيد التكريم ونمنعه من أن يصبح عاملًا محوريًا في الحث والتشجيع على الفضائل، فترانا نكرّم العالِم فقط بعد موته، لأننا نكون قد وثقنا بأنه لن ينحرف أو لن يحتل موقعًا اجتماعيًا مميزًا يزاحمنا من خلاله على مناصبنا الوهمية؛ وترانا نكرم المجاهد بعد قتله فقط لاطمئناننا بأنه لن يطالب بالكثير من حقوقه المهدورة؛ وترانا نكرم الشباب الذين هم بأعمار أولادنا أو أحفادنا لأنهم لن يقدروا على تجاوز الكثير من المراحل التي تفصلهم عنّا، ولأننا بتكريم هؤلاء الأشبال دون الكهول وأصحاب السابقة الحسنى نسيطر عليهم ونجعلهم تابعين لنا. وهكذا تتعدد دواعي التكريم بعيدًا عن المعنى الجوهري (الفطري والعقلائي) للتكريم، وترانا نقوم بكل تكريم بعيدًا عن الكرامة الحقيقية، الكرامة التي يُفترض أن تكون عنوان التكريم وسببه. ولا تكون الكرامة مكرّمة في مجتمع يجهلها ولا يعرف أصحابها الحقيقيين، فكيف إذا كان مجتمعًا يكرّم لأجل غير التكريم!
[1]. سورة القيامة، الآية 23.
[2]. نهج البلاغة، ص 304.
[3]. عن الإمام الصادق(ع): إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (ص) قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَخَافُ عَلَيْنَا النِّفَاقَ قَالَ فَقَالَ وَ لِمَ تَخَافُونَ ذَلِكَ قَالُوا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ فَذَكَّرْتَنَا وَ رَغَّبْتَنَا وَجِلْنَا وَ نَسِينَا الدُّنْيَا وَ زَهِدْنَا حَتَّى كَأَنَّا نُعَايِنُ الْآخِرَةَ وَ الْجَنَّةَ وَ النَّارَ وَ نَحْنُ عِنْدَكَ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ وَ دَخَلْنَا هَذِهِ الْبُيُوتَ وَ شَمِمْنَا الْأَوْلَادَ وَ رَأَيْنَا الْعِيَالَ وَ الْأَهْلَ يَكَادُ أَنْ نُحَوَّلَ عَنِ الْحَالِ الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا عِنْدَكَ وَ حَتَّى كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ عَلَى شَيْءٍ أَ فَتَخَافُ عَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نِفَاقاً فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص كَلَّا إِنَّ هَذِهِ خُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ فَيُرَغِّبُكُمْ فِي الدُّنْيَا وَ اللَّهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي وَصَفْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِهَا لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَ مَشَيْتُمْ عَلَى الْمَاء. [الكافي، ج2، ص 242]

وعشقوا الشهادة
تحرير لمحاضرات آية الله الحائري حول الشهادة، وأضافت إليه الكاتبة مقاطع ونصوصا للإمام الخميني والقائد الخامنئي والشهداء فخرج بهذه الحلة الجميلة. وعشقوا الشهادة تحرير: عزة فرحات الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 14.5*21غلاف ورقي: 72 صفحة الطبعة الأولى، 2004م

عطر الشهادة
كلمات وخطب وبيانات الإمام القائد حول الشهادة وقداستها ودور الشهداء وعوائلهم وأبنائهم، وواجبات الأمة بحفظ أمانة الدماء الطاهرة للشهداء مع الإرشادات للعاملين في مؤسسة الشهيد لرعاية عوائل الشهداء. عطر الشهادة الكاتب: الإمام الخامنئيالناشر: بيت الكاتبحجم الكتاب: 14*21.5غلاف ورقي: 104 صفحاتالطبعة الثانية، 2009مالسعر: 4$

حياة الشهداء
عندما نقرأ هذه الآية الشريفة {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قد يُطرح هذا السؤال وهو: من المعلوم أنّ جميع الناس سيعودون إلى الحياة بعد الموت، فلماذا ذُكرت الحياة كخاصية للشهداء في هذه الآية؟
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...