
حول جماعة القربان
والظواهر الخطيرة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب أي مجتمع نريد
حين تكون الانفعالية هي السمة البارزة لحركاتنا الفكرية والتبليغية، فهذا يعني أنّنا نعاني من أزمة كبرى.
الطبيعة النورية للتعاليم والقيم الدينية تعني أنّها تنتشر دومًا وتتقدم ولا تنتظر حلول الظلام حتى تسلخه. هذا ما نعبر عنه بضرورة ممارسة الهجوم الثقافي بدل الدفاع. ولأنّ الحق يدمغ الباطل ويزهقه أينما تواجها، فإنّ انتشار الباطل يدل على شيء واحد وهو انسحاب الحق من الميدان. الحق والباطل في الحياة البشرية يتمثلان ويتصارعان عبر البشر.
انتشار أي باطل في الحياة الاجتماعية وصيرورته ظاهرة يعني أنه أصبح تهديدًا جديًّا لكيان المجتمع ومصير البشرية. لكن سقوط أفراد هنا وهناك في فخ الباطل، ووقوع البعض من حين إلى آخر في شراك الضلالة لا يعني وجود ظاهرة اجتماعية على هذا الصعيد.
ينبغي أن نفرق بين الحالات الجزئية والظواهر الاجتماعية. ما ينبغي أن يجعلنا قلقين ويحتم علينا مراجعة حساباتنا بخصوص أدائنا وخططنا المرتبطة بنشر الحق هو بروز الباطل وتمثله في الظواهر الاجتماعية. مجرد اعتناق بعض الناس لعقائد باطلة وممارسة أفراد متفرقين لطقوس شيطانية لا يدل على ظاهرة.
فمن الطبيعي والمتوقع في ظل هذا التفاعل والصدام المتواصل بين الثقافات البشرية أن يحصل الجذب والطرد من هنا وهناك. لا ينبغي هنا أن نُصاب بالصدمة إن خرج أفراد عن الملة والدين، ولا يجب أن نعتبر اعتناق أفراد لديننا علامة على قوة مشاريعنا وخططنا. المطلوب والمرتجى هو تحول تبليغ الحق والمعارف الحقة إلى مسارات اجتماعية، وعدم حصول النقيض داخل مجتمعاتنا، مما يؤدي في النهاية إلى زوالها أو فقدانها لهويتها.
يجب أن نتعرف على التهديدات الكبرى التي تطيح بأصول الحق وقواعده التي تنطلق منها الحركة الاجتماعية التقدمية. معارف الدين تهدف إلى تشكيل المجتمع الفاضل، والتهديدات الكبرى هي التي تمنع من إقامة مثل هذا المجتمع.
لا يبدو أننا استطعنا صناعة خطاب أو تكوين توافق مبني على العلم بشأن هذه القضية الحساسة. ولذلك فمن المتوقع دومًا وقوع الاختلاف في تحديد المخاطر الأساسية، وحصول الانفعال تجاه الصغير منها أكثر من الكبير فيها. من المتوقع أن يخرج بعض القوم ليدعوا بالويل والثبور ويقيموا الدنيا ولا يقعدوها لأنهم شعروا بالخطر الكبير من حادثة لا يمكن أن تتحول إلى ظاهرة، وتراهم في الوقت نفسه ساكتين عن ظواهر اجتماعية تهدد الوجود؛ كل ذلك لأن القضايا الثقافية لا يمكن أن تنعكس في وسائل الإعلام وأساليبه الظاهرية.
لعل المشكلة هنا ترجع إلى عدم الالتفات إلى دور الدين الاجتماعي قبل أي شيء. لو أننا فهمنا طبيعة الحراك الاجتماعي والمسارات التي تسلكها المجتمعات وهي تطوي مراحل التقدم أو التخلف، لأصبح فهم معنى الظواهر الاجتماعية ميسرًا. بعد ذلك يمكن التعرف أكثر على دور الدين الاجتماعي.
لا شك بأن قيام أسرة متدينة بالانتحار لأجل فكرة أو عقيدة يهز الضمائر؛ ولكن علينا أيضًا ونحن نتعامل مع هذا الحدث أن نضعه في إطاره الاجتماعي، مهما كان مدويًّا على المستوى الإعلامي. ويجب أن نطرح مثل هذا السؤال وهو: هل يمكن لفكرة غلو تدعو إلى ممارسة طقس قتل النفس قربانًا للإمام علي، هل يمكن أن تتحول إلى ظاهرة اجتماعية في مجتمع أضحى مشبعًا بالعقائد المتينة والوعي الاجتماعي التقدمي؟
لو تأملنا في حياة من أقدم على الانتحار فداءً لفكرة من هذا النوع لوجدناها حياةً فارغة منعزلة لم تطّلع على ما ادّخره المجتمع على مستوى الرأسمال الفكري والعقائدي والمعنوي، والذي تراكم على مدى العقود الأربعة الماضية؛ هذا مع الإذعان بأنّنا ما زلنا نرى أمامنا مسارًا طويلًا في هذا المجال.
ينقصنا الكثير حتى نصل إلى المجتمع المنشود فكريًّا ومعنويًّا وقيميًّا، لكن ما تحقق لحد اليوم هو أشبه بطفرة كبرى على هذا الصعيد مقارنةً بالمراحل السابقة.
ربما يختلف ذلك في مجتمع كان حرّاسه الدينيون مشغولين بوضع الحواجز والسدود أمام ثورة الإمام الخميني المعنوية والعرفانية.
من الطبيعي إذًا أن تنشأ حركات وتيارات غلو في مجتمع يصر الكثيرون من الوجهاء فيه على حرمان أهله من بركات المعنويات والتطورات الفكرية التقدمية التي تحققت في المجتمع الذي يجاوره. لكن هذه التيارات هي أبعد ما يكون عن مجتمعنا الذي عُرف بالانفتاح الملفت منذ اللحظات الأولى لتفجر أنوار ثورة الإمام الخميني الروحية والفكرية والسياسية والاجتماعية.
وهذا لا يعني أن نهمل ولو حادثة واحدة تتعلق بفرد أو مجموعة من الأفراد الذين لا يمكن أن يشكلوا ظاهرة اجتماعية. وهنا لا بد أن نتذكر جميعًا ـ ونحن نعيش هذه الصدمة ـ ضرورة التعرف على عملية تشكل الظواهر، حتى لا ننعت بعض الحوادث بأنها ظواهر، ونحدد لها أولويات.
يجب أن تكون حركتنا في تبليغ الدين ونشر تعاليمه وترسيخ قيمه متوجهة إلى الأفراد بما هم أفراد، في الوقت الذي ندعوهم إلى الالتحاق بركب الجماعة لأن يد الله مع الجماعة. ولا ينبغي أن نعتبر موت شخصٍ واحد عبثًا كلا شيء. لكن هذا شيء وتصوير المسألة كظاهرة اجتماعية شيءٌ آخر.
إن استطعنا أن نتفق على أولوية التعامل مع ما يُشكّل ظواهر اجتماعية ذات تأثير بنيوي على مصير المجتمع، فسوف نجد أنفسنا أمام استحقاقات المشاريع الكبرى والأعمال ذات الأهمية القصوى، وسوف نتمكن من تحديد المشاكل الأساسية التي تؤدي إلى تخلُّف المجتمع ووقوعه في براثن أعدائه الذين يريدون استلاب ثقافته وتبديل هويته. وهنا فإنني اعتقد بأننا سنكتشف تلك الظواهر المرعبة ذات المخاطر العالية التي تسم مجتمعنا بسمات التخلُّف والضعف، ونحن عنها غافلون.
ففيما يتعلق بالغلو، لا ينبغي أن ننسى أنّ ما قام به علماؤنا على مدى التاريخ، وبإرشادٍ وتوجيه من أئمتنا الأطهار، كان قد أدى إلى ترسيخ دعائم العقائد الحقة والقضاء على بواعث الغلو (في نطاق المجتمع ومساراتها العامة). لذلك فإنّ متابعة حوادث الغلو قد أكدت لنا تلك الفكرة التي تقول بأنّ ذلك إنما نشأ من عدم وصول صوت الحق ونوره إلى فراغهم وانعزالهم.. فإذا كان هناك من شيء يجب مناقشته والدعوة إلى التفكر فيه والاجتماع من أجله فهو ما يرتبط بانتشار نور الحق وإيصال كلمة الله ونقل ذلك التراث المهم الذي تراكم على مدى القرون في مواجهة الانحرافات العقائدية ومنها قضية الغلو. وذلك كله دون الغفلة عن دور الإعلام في تضخيم أي مشهد أو حدث. فإعلام اليوم أصبح بمثابة قوة العقيدة عند من لا يتبع المنطق والدليل.

على طريق بناء المجتمع التقدمي
المجتمع التقدّمي هو المجتمع الذي يتحرّك أبناؤه نحو قمم المجد والفضيلة والكمال.المجتمع التقدمي هو التعبير الأمثل عن استجابة الناس لدعوة الأنبياء الذين أرادوا أن يخرجوا البشرية من مستنقع الرذيلة والحيوانية والعبثية لإيصالها إلى أعلى مراتب الإنسانية والنور..فما هي سبل إقامة هذا المجتمع؟وما هي العقبات التي تقف في طريق تحقّقه؟ على طريق بناء المجتمع التقدّمي الكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتبحجم الكتاب: 14.5*21عدد الصفحات: 376الطبعة الأولى، 2019Isbn: 978-614-474-081-1السعر: 14$
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...