
لماذا يُعد قصف المدنيين العُزّل نقطة عطف كبرى
وعلى ماذا يدل؟
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب أي مجتمع نريد
قال الله تعالى: {إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طينٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدين}.[1]
لا تزال الحرب العالمية الثانية حاضرة بقوة في ذهن العسكريين الغربيين وأتباعهم في كل مكان في العالم.
لم تكن تلك الحرب نموذجًا فريدًا من حيث عدد التجارب والدروس العسكرية المستخلَصة من ميادين القتال فحسب، بل أضحت تُمثل رؤية حربية واسعة لكيفية الانتصار على العدوّ باستخدام شتى الوسائل والطرق.
لم تكن ألمانيا واليابان وحدهما من ارتكب جرائم حربية يندى لها جبين التاريخ، فقد تعرّق جسد هذا التاريخ كله كذلك بفعل الفظائع التي مارسها الحلفاء بغية تحقيق انتصارهم المزعوم.
وفق القوانين الدولية، كان يُفترض محاكمة تشرشل وأيزنهاور وترومان وجنرالاتهم كمجرمي حرب، مثلما تمّ محاكمة جنرالات ألمانيا واليابان وإعدامهم؛ لكن وكما يُقال فإنّ المنتصر هو الذي يدوِّن التاريخ كما يحلو له. فقد كان عمليات إبادة المدنيين وتدمير مدنٍ بأكملها جزءًا أساسيًّا من تكتيكات الحرب العالمية الثانية، واعتُبرت وسيلة ناجعة لكسر إرادة العدو. وبمعزل عن مدى ما أنجزه هذا التكتيك، حيث تبيّن أنّه كان فاشلًا بل عاملًا مضادًّا، فإنّه لن يخرج عن كونه مخالفًا لأبسط حقوق البشر والأخلاق الإنسانية.
حين تعمل أي قوة في العالم على تبرير هذا النوع من الجرائم لتصبح إبادة المدنيين العُزّل حقًّا مشروعًا لها، فإن هذه القوة ستكون الآن في مبارزة مباشرة مع خالق الإنسان ومدبّر الأكوان. وذلك لأنّ الاعتداء على الإنسانية يُمثل في السنن الإلهية اعتداءً صارخًا على ما يمكن أن نُعبر عنه بحقّ الله في إيجاد الإنسان في هذا العالم. ولا يمكن لله أن يسمح لأي قوة بتبرير ذلك وجعله قانونًا عالميًّا.
يوجد فرق كبير بين إبادة المدنيين العُزّل تحت جناح الليل والتهرُّب من هذه المسؤولية، وبين إبادتهم علنًا جهارًا واعتبار ذلك حقًّا مشروعًا. إنّه كالفرق بين اقتراف منكرٍ وبين اعتباره معروفًا. الخط الأحمر هنا يرتبط في تدمير منظومة القيم، فكيف إذا كانت قضية إلهية بحتة؟!
إنّ خلق الإنسان وتأمين حياته الكريمة يُعد من الشؤون الإلهيّة التي يتولّاها الله تعالى ولا يمكن أن يحصل فيها أي عبث. أجل، إن أراد الإنسان أن يستهين بكرامته ويتلف حياته فهذا شيءٌ آخر، لأنّ الله تعالى لن يُجبر البشر على حفظ كرامتهم.
إنّ ما نُشاهده اليوم هو أخطر ممّا جرى في حفلات الجنون الهمجية في الحرب العالمية الثانية، لأنّ أمريكا تُريد أن تجعل من إبادة المدنيين العُزّل حقًّا مشروعًا فتسنّ بذلك سُنّةً سيعمل بها الآخرون في أيّ مكانٍ في العالم حين تقتضي مصالحهم القيام بهذا النوع من الجرائم الحربية السافرة. وهكذا ستتسارع وتيرة هذا الانحطاط البشري ليصل إلى انقلابٍ تام للطبيعة الإنسانية وتحوُّل البشر إلى مجرّد وحوش تحكمهم شريعة الغاب.
لم تكن كل جهود الأنبياء لحفظ وصون كرامة الإنسان على مدى التاريخ لتذهب جفاء. فالله يتولى هذا الحفظ وإن لم يوجد شخصٌ واحدٌ قادرٌ على الدفاع عنها. إبادة المدنيين العُزَّل تعني الاستخفاف المُطلق بالجسد البشري والشأن الإنساني الذي يحكي عنه. السحق والسحل والتحطيم للعظام والجلود والوجوه في غمرة سكرة التأييد والتشجيع الغربي لا يعني فقط سقوط الحضارة الغربية إلى غير رجعة، فقد سقطت هذه الحضارة سقوطًا مدويًّا في الحرب العالمية الثانية، ولم يمنع الإعلان عن سقوطها سوى تمسُّك الكثيرين من الذين يُفترض أن يكونوا بديلًا عنها بها.
استطاع الغربيون أن يسترجعوا بعض ماء الوجه الذي أُريق بالكامل في حروبهم العالمية بفضل اعتقاد قسمٍ كبير من سكان الأرض بأنّهم يمثلون الإنسانية، وحين يزول هذا الاعتقاد فلن يبقى للحضارة الغربية أي معنى للبقاء. هذا بعض ما يفسّر العهر الألماني والإنكليزي والأمريكي وعدم مبالاتهم بسقوط أقنعتهم التي لطالما تمسكوا بها من أجل تسويق بضاعتهم الكاسدة.
[1]. سورة ص، الآيات 71-72.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...