حماية الأسرة
بين المبادرات الفردية والاجتماعية
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب #الزواج_في_مدرسة_الإيمان
و#شركاء الحياة
"إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ".[1]
الزواج الناجح يبني أُسرةً متينة؛ والأُسرة المتينة مِدماكٌ أساسي لاستقرار المجتمع وازدهاره. أيُّ حديثٍ عن الازدهار والتقدُّم والعيش الهنيء والحياة الطيبة بمعزل عن الأسرة وأواصرها هو وهمٌ وخداع. مثل هذا الأمر الحساس والمصيري كان من أهم أهداف التعاليم الإسلامية؛ يمكن اكتشاف ذلك من خلال التأمل في الأصول المستنبطة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة المروية عن أهل بيت العصمة والطهارة.
ومن هذه الأصول الدعوة والحث الأكيد على الزواج والإكثار منه وعدم تأخيره مع توفر شروطه. فإنّ قسمًا مهمًّا من المشاكل التي تحصل بعد الزواج ترجع إلى بنائه على تعقيدات. ولعل هذا ما يُستفاد من قضية كراهية غلاء المهور. تسهيل الزواج إلى أقصى حد ممكن هو أصل آخر يعتمد على تبسيط شروطه. البساطة هنا لا تعني السخافة أو السطحية أو التساهل. لكن هذه الشروط التي طرحتها تعاليم الدين قائمة على الفطرة السليمة التي لا تحتاج إلى جهد إلا إذا خربت تلك الفطرة وانحرفت. فالتديُّن والتخلُّق بالفضائل يجب أن يكون نتاج البيئة التي تزمع على تطبيق الدين في حياتها. مثل هذا التوجُّه والإيمان كفيل بتطهير الناس من أرجاس الجاهلية وأدناسها. بسرعة سنلاحظ في مثل هذه البيئة الاجتماعية تحوُّلات نفسية فيكثر الطيبون والطيبات وتزداد المشتركات والعوامل المساعدة على الانسجام. هذا ما يُفسّر كثرة الإخوان والأصدقاء في بيئة الإيمان.
تبسيط الزواج وإخلاؤه من العقد يتطلب وضعه على طريق الآخرة. لا يمكن لأي ظاهرة أن تصبح ميسرة وسلسة إذا امتزجت بالتوجهات الدنيوية والآمال المادية الدنية. فإذا أراد قادة المجتمع بناء مجتمع متين ينطلق أبناؤه على طريق التقدم والازدهار، عليهم أن يزرعوا ويسقوا ويرووا بذور الإيمان بالله واليوم الآخر.
ليس على قادة المجتمع أن يقوموا بما هو أكثر من ذلك. هذه مهمة فائقة الأهمية. كل ما يكون بعدها سيكون من النتائج والثمار. ليس عليهم أن يتحدثوا ويركزوا على تفاصيل الزواج أكثر مما جاء في الشرع الحنيف. وليس عليهم أن يقلقوا من أن مجتمعهم لن يتفاعل مع الإيمان بالشكل المطلوب. بعض هؤلاء القادة والمتصدين يتصورون في بعض أحكام الإسلام حرجًا ويعتقدون أنّها ستؤدي إلى إيجاد مشاكل، فيُحرّمون ما أحل الله ويُبطلون مستحبات شرعية مؤكدة بحجة أنّها توجد معضلات!
النظر إلى الأُسرة من الزاوية الاجتماعية الواسعة هو مهمة قادة المجتمع. والنظر إلى الأسرة من زاوية التجارب والحالات الخاصة هو ابتلاء الذين يتصدون لهذه القضية بالتعامل مع النماذج الفردية. فرق كبير في النتائج.
من الطبيعي أن يتعامل المُستشارون والأطباء النفسيون مع الحالات السلبية والمرضية. وهذا ما يؤدي غالبًا إلى تشكُّل نظرة محددة بشأن مشاكل الزواج والحلول المطلوبة قد تخالف تمامًا تلك الرؤية الاجتماعية الواسعة.
قد تُشكّل ظاهرة زيادة العنوسة تهديدًا للزواج بسبب كثرة العرض وسهولته. غالبًا ما تُصبح المرأة العانس سهلة المنال أو تتساهل بالشروط التي كانت متمسكة بها قبل عنوستها. العنوسة هنا تعني تجاوز المرحلة العمرية التي تكون مورد نظر وطلب الرجال عمومًا. تصبح إمكانية حصول الزواج صعبة ونادرة بالنسبة للعانس. هذا ما يبعث على نوع من اليأس من جهة المرأة والاستغلال من جهة الرجل. مثل هذه السهولة قد تشكل تهديدًا للزيجات الموجودة بشكل عام. الزوجة هنا لن تقبل بوجود منافسة لها سهلة إلى هذا الحد، والزوج سيجد في العانس فرصة سانحة للمزيد من الاستمتاع مع حد أدنى من الأعباء والمتطلبات. وهذا ما يجعل مؤسسة الأُسرة أمام تهديدٍ جدّي؛ بدءًا من انبثاق المشاكل النفسية والأزمات العاطفية ومرورًا بالشجارات والاختلافات اليومية وانتهاءً بالطلاق والانفصال.
هنا نجد من يؤكد على ضرورة الحفاظ على الزواج من خلال دعوة الرجال إلى غض البصر عن هذا العرض السهل وضبط النساء أمام هذا الطلب المستسهِل. لأجل حماية مؤسسة الأسرة يجب أن نضحي بالعوانس حتى لو وصلت معاناتهنّ إلى حدّ التأزُّم النفسي.
بعض المتصدين للشأن العام لا يجدون في هذه المعاناة حقيقةً وواقع. يعتبرونها مبالغة، ويرون إمكانية الصبر عليها من أجل الصالح العام. يُسمون هذا الصبر تعفّفًا. يطالبون الرجال بغض البصر والعوانس بضبط النفس. ويتوقعون أنّ هذا ما سيحصل وأنّ المشكلة ستختفي.
لكن الطبيعة البشرية التي ينساها المتصدون الشيوخ الطاعنين في السن الذين نسوا مدى قوة هذه الشهوة وضغط هذه الحاجة، ستفرض نفسها في النهاية. لا يمكن لأي قوة على وجه الأرض أن تضبطها من خلال قمعها. هذا الانضباط مطلوب في مقاطع زمانية محدودة، لا على مدى الحياة.
لهؤلاء الذين تتحرق قلوبهم ألمًا على هذا المجتمع ويحرصون على إيجاد الحلول لمشاكله عليهم أن لا ينسوا تلك الرؤية الدينية الإلهية التي وضعت تشريعات واضحة ودعت إلى تطبيق قيم معروفة. تحرير الزواج من عقده النفسية ومن الشروط والأعراف المضيقة هو الذي يُكثر منه ويزيده متانة، فيزداد عدد المتمتعين به في المجتمع وتقل معها الضغوط النفسية التي هي العامل الأول وراء ضعف الإنتاج وارتفاع معدلات الجريمة المقنعة والمكشوفة وتضييع الجهود وإهدار الطاقات.
في المحصَّلة يزداد عدد حالات الطلاق، ولكن يزداد معها عدد حالات الزواج والنسل. تكون النتيجة على المدى البعيد رسوخ الزواج الإسلامي السهل البعيد عن التعقيدات وكثرة المواليد وزيادة عدد السكان التي تُعد أهم عنصر في الازدهار الاقتصادي. ستنعم الأكثرية ويقل عدد الذين يعانون أو يموتون بحسدهن وغيرتهن.
[1]. الكافي، ج5، ص347.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...