كيف نربّي أولادنا على اكتساب العزم؟
أفضل طريق إلى الإنسانية
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب #تربية_الأولاد و#أولادنا
العزم كما قال المربي العظيم الإمام الخميني "هو جوهر الإنسانية". وإذا كانت الإنسانية درجات تنتهي عند الإنسان الكامل، فإنّ كل درجة فيها تتحدد على أساس ما يمتلكه صاحبها من عزم. ولذلك ليس مستغربًا أن يُقال لأفضل الرسل أنّهم أولو العزم، أو أن يُعزى السبب في معصية آدم ربَّه وسقوطه إلى أنّه لم يكن صاحب عزم في هذا المجال، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.[1]
إن كنّا نريد أن نعزّز الإنسانية في أبنائنا ونحن نعلم أنّها القاعدة الأساسية لكل مراتب التكامل ودرجاته، فينبغي أن نعمل على ترسيخ العزم في نفوسهم. وكلّما ازداد العزم ازدادت القاعدة متانةً وكان البناء عليها أصح وأسلم وأدوم. ولذلك قد يكتسب الإنسان بعض الكمالات والفضائل بحكم الوراثة أو الاندماج والانتماء، لكنّه سرعان ما يفقدها نتيجة عدم قيامها على قاعدة العزم. فالعزم هو الحافظ للكمالات جميعًا.
العزم جوهرٌ مجهول الكنه معروف الآثار. لا يمكننا أن نعرف أسراره، لكنّنا نطلبه بكل لهفة ونحن نعلم أنّه أساس التوفيق. فمن أراد الله له توفيق الطاعة والمداومة على أي برنامج تكاملي فإنّه يبث في نفسه العزم أولًا. ولذلك كم من راغب بالتكامل وساعٍ إلى تطبيق البرامج، ومع ذلك لا يوفق لأنّه فقد العزم وافتقده.
بالإضافة إلى الدعاء لأولادنا للحصول على هذا التوفيق، يجب أن نعينهم على ذلك من خلال توفير بعض المقدمات المهمة. فإذا تصورنا العزم كقوة نفسية باعثة على القيام بالعمل وتجاوز موانعه وعوائقه بكل ثبات، فإنّ الوصول إليه لا يكون بمجرد التمني، بل يمكن للإنسان أن يهيئ في نفسه نوعًا من الأرضية المناسبة لاستقباله والاستحواذ عليه.
وأول ما ينبغي فعله الابتعاد عن كل ما يغلّب جهة الميل إلى الراحة والدعة في النفس؛ وقد ذكروا أنّ استماع الغناء هو أحد أهم عوامل إضعاف العزم، كما نقل الإمام الخميني عن أستاذه. والسر في ذلك يرجع إلى ما يُحدثه الغناء الدنيوي من تقوية الميول إلى الأماني وإطالة الآمال التي تؤدي إلى جعل الإنسان حالمًا لا عاملًا. ولعل هذا ينطبق على أي حديث أو بيئة هي من هذا القبيل؛ فلا ينحصر الأمر بالغناء بما هو غناء. فإنّ كثرة استماع الكلام الذي يغذّي في النفس الأمل بالدنيا يبعده عن تصور واقعها وحقيقة ما يجري فيها. ونحن نعلم أنّ هذه الدنيا هي دار بالبلاء محفوفة وهي أرض الصعاب والسعي والكدح، حيث العوائق والموانع. وهكذا يحصل نوعٌ من التناقض بين الواقع والخيال، فتزداد صدمة الواقع في النفس أضعافًا بمقدار ما كان الخيال بعيدًا عن الواقع. ومن كان هذا حاله، فإنّه سيشعر بالإرهاق والتعب عند أي صعوبة تواجهه، فيفقد القدرة على الصمود والمثابرة.
ليس الأمر محصورًا بالغناء وأجوائه إذًا، بل الأمر يرتبط بكل بيئة يمكن أن ينشأ فيها أبناؤنا بعيدًا عن الواقع. وهذا ما يحتم علينا أن نعد أولادنا للتعامل مع هذا الواقع في فكرهم وخيالهم أولًا وفي سلوكهم ونمط حياتهم ثانيًا.
إنّ سعي الآباء لتأمين أفضل ما يكون للأبناء لا يصب دائمًا في مصلحة الأبناء. كثيرًا ما ينطلق الآباء من عقدة الحرمان التي عاشوها في طفولتهم وهم عازمون على ألّا يعاني أولادهم مما عانوه، غير ملتفتين إلى أنّ جزءًا مهمًّا من نجاحهم في توفير هذه الإمكانات للأولاد إنّما كان بفضل تلك المعاناة والمقاساة. وهذا لا يعني أنّ المطلوب حرمان الأبناء أو اعتماد مبدأ التقشف، وإنّما المطلوب أن يدرك أولادنا كيف وصلتهم هذه الإمكانات ليعرفوا قيمتها وقيمة السعي المبذول فيها.
لا شك بأنّ الكلام وحده غير كاف، بل قد يزيد النفس ملالة ونفورًا. إنّ الحديث المتواصل عن معاناتنا كآباء في سبيل تأمين العيش الكريم والفرص الواسعة لأبنائنا قد يصل إلى مستوى المنّ المؤذي. يجب أن يشعر أبناؤنا بشيء اسمه التوفيق والتفضل الإلهي وسعة الفرص واليسر. لا ينبغي أن يروا الحياة كلها كمعاناة، لأنّ هذا أدعى إلى البخل الذي هو أبشع الرذائل. وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله".[2] يجب أن يدرك أبناؤنا أنّ ما حصلنا عليه إنّما كان من سعة رحمة الله وفضله. وهذا لا يتناقض مع العزم وتقويته، بل إنّ جزءًا مهمًّا من مكونات العزم يرجع إلى الرجاء. فكلما ازداد المرء رجاء ازداد عملًا. وإنّما يُقبل الإنسان على هذا الوجود بفضل ما يراه أمامه من فرص ونعم لا حد لها ولا حصر.
ففي الوقت الذي يجب إظهار مصاعب الدنيا وعقباتها وبلاءاتها، يجب أن نظهر لأبنائنا أنّ هذا الوجود أوسع بكثير من هذه الدنيا، حتى يزداد رجاؤهم بالله وطمعهم بعظيم فضله. مشكلة عقبات دار الدنيا أنّها تكون عقبات عند من لم يرَ وراءها دارًا. لكن "من أيقن الخلف جاد بالعطية"[3] كما جاء عن أمير المؤمنين(ع). ولعلّ ضعف عزم آدم أنّه ما كان مدركًا بعد ما أعده الله له وراء عالمه الجميل المريح؛ ولذلك انطلت عليه حيلة إبليس اللعين الذي وعده بالخلد والملك الذي لا يبلى. وكأنّ آدم عليه السلام كان لا يرى سوى عالمه الذي مع سعته كان محدودًا.
إنّ أحد أهم مولدات العزم في النفس هو اطلاعها على ما ينتظرها في هذا الوجود، وأنّه لا يُنال ذلك إلا بالسعي، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلا ما سَعى}،[4] و{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهينَةٌ}.[5] فيتولد الدافع القوي للعمل، وهذا هو العزم.
وفي قوله تعالى: {أوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبينٍ}،[6] إشارة إلى العلاقة المباشرة بين التنشئة في أجواء الحلي والزينة والمنعمات والضعف الذي يظهر في الخصومات والمواجهات. ففي الوقت الذي يجب أن نبعد عن أبنائنا أشكال النعومات والراحات الزائدة، ينبغي أن ندخلهم شيئًا فشيئًا في أشكال المصاعب والشدائد حيث إنّ "الشجرة البرية أصلب عودًا"،[7] كما قال أمير المؤمنين عليه السلام. ويستلزم ذلك التقليل من أسباب الراحة بما يتناسب مع المراحل العمرية والاستحقاقات الحياتية. ولا شك بأنّ تنشئة الإناث تختلف عن الذكور من هذه الناحية، لأنّه من المفترض أن ينشأ المجتمع كله على قاعدة "الذكور في خدمة الإناث". وحين يضيع هذا الأصل في المجتمع ونرى فتياتنا مقبلات على نوعٍ من الحياة الصعبة والشاقة، فعلينا أن نأخذ هذا في عين الاعتبار.
التدرُّج في التخفيف من الأجواء المريحة والناعمة يتطلّب استخدام أنواع من التمارين المناسبة لما يمكن أن يواجهه أولادنا. ففي بيئة جغرافية محاذية للكيان الغاصب ـ حيث يُتوقع اندلاع حرب وحصول فظائع في كل يوم ـ ونظرًا للطبيعة الهمجية لهذا الكيان والدور الموكل إليه من قبل الدول الغربية الاستعمارية، يجب أن نعد أبناءنا للتعامل مع هذا النوع من التحدي حتى يتمكنوا من عبوره وتجاوزه بنجاح وفلاح. وهذا ما يتطلب إدخال ثقافة القتال والجهاد والشهادة والأسلحة إلى حياتهم منذ بداية وعيهم.
ومن عوامل تقوية العزم أن يرى أبناؤنا نتائجه المباشرة في حياتهم. فمن لم يجرب ما ينتجه العزم على صعيد النجاح والمتعة والإنجاز، ربما لن يرى له أهمية وقيمة. رسوخ هذه العلاقة في النفس يجعل الإنسان موقنًا بأنّه بدون العزم لن يكون شيئًا مذكورًا.
[1]. سورة طه، الآية 115.
[2]. نهج البلاغة، ص430.
[3]. الأمالي للصدوق، ص447.
[4]. سورة النجم، الآية 39.
[5]. سورة المدثر، الآية 38.
[6]. سورة الزخرف، الآية 18.
[7]. نهج البلاغة، ص418.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...