
الحجاب بين الحياء والتهتّك
متى يكون الحجاب سفورًا؟
السيد عباس نورالدين
يبدو أنّ التّركيز الإعلاميّ على ظاهر "الحجاب" قد سمح للكثيرين أن يتلاعبوا به ويحوّلوه إلى عاملٍ مضادٍّ لحقيقته. فالحجاب بحسب المصطلح الشائع هو ذلك الغطاء الذي يكمّل عمليّة إخفاء تفاصيل البدن باللباس، ولذلك صار أمرًا مختصًّا بالنساء. فاللباس يستر جزءًا مهمًّا من البدن، ويأتي الحجاب ليكمل هذا الستر عند النساء خاصّة. أمّا أصل ستر البدن فهو شاملٌ للرجال أيضًا. وأحد الأهداف الأساسيّة للّباس هو منع استخدام البدن لأغراض شهوانيّة تخرج بالإنسان عن إنسانيّته وكرامته وسموّه.
إنّ التعرّف إلى النظرة الإسلاميّة للحجاب كقيمة معنويّة ليس بالأمر الصعب؛ لكن ذاك التركيز على الظواهر، مع إهمال البناء القيميّ والمعنويّ لم يحل دون حصول خروقات كبيرة، أدّت إلى إضعاف القيم التي قام عليها الحجاب.. أجل، للإنسان قدرة عجيبة على تحريف كلّ المعنويّات وجعلها مناقضة للمعنويّات. وللأسف، هذا ما حصل مع الحجاب الإسلاميّ وما زال في العديد من البيئات والمجتمعات.
لأجل ذلك نحتاج، قبل أيّ شيء، إلى ترسيخ ثقافة الحجاب التي تنطلق من رؤية الإسلام الكونيّة التي تتميّز بنظرة رائعة للإنسان وموقعيّته وهدفه في الحياة؛ ومن ثمّ تمر عبر منظومة قيميّة سامية تعبّر عن نفسها في نهاية المطاف بمجموعة من التشريعات التي تهتم بالظاهر والسّلوك والفعل البشريّ.
للرؤية الكونية الإسلاميّة نظرة معروفة حول ماهيّة الإنسان وهويّته الأصيلة، باعتبار أنّ جوهره روحانيّ وهو أعمق من الجسد ويسمو فوقه، ويمكن أن يبلغ من الكمال مراتب لا تشبه بتاتًا كمالات الجسد وحاجاته. فالإسلام الذي نعرفه يدعو إلى سعادة أعلى وأسمى وأعظم بكثير من لذائذ المادّة والشهوة الحاصلة من استخدام الجسد؛ هذا بالطبع، من دون أن يتنكّر لها. وأي تحديد للالتذاذ الجسمانيّ في العرف الإسلاميّ، إنّما يكون فقط وفقط من أجل حفظ هذه اللذّة أوّلًا، ومنعها من أن تطغى على حساب اللذات الأعلى والأكبر.
لا يتنكّر الإسلام لجماليّة الجسد، ولا يعتبره أمرًا شيطانيًّا أو منحطًّا، لكنّه يدعو إلى التمتّع بجمالٍ أعلى بكثير، ويقيم نظامه التشريعيّ على أساس حفظ الجمالين. ولهذا، فإنّ استعراض الجمال الجسمانيّ بصورة عشوائيّة متفلّتة بحسب هذه النظرة، لن يكون عائده على مستوى التمتّع بالجمال الجسمانيّ إلّا الضعف والحرمان والخسارة. فأنت كإنسان تخسر إن كنت مادّيًّا مفرطًا.
ولهذا، فإنّ ثقافة الإسلام تقف هنا موقف النقيض من الثقافة الغربيّة السائدة، التي تدعم وتدعو إلى إبراز مفاتن الجسد وإغراءاته، باعتبار ذلك جمالًا ينبغي أن تتمتّع به العيون وتُسرّ به النفوس. ولو اكتفينا بمنهاج البحث الميدانيّ والاستقرائيّ دون غيره، لخلُصنا إلى هذه النتيجة الحاسمة وهي أن هذه الظاهرة نفسها لم تكن يومًا مفيدة ومساعدة لاستمتاع العيون وتمتّع البشر بالجمال. فما قام على أساس إظهار الجمال الجسمانيّ، لم يكن سوى تجاوز فاضح للجمال، وانغماس كبير بالشهوات المتفلّتة والممارسات الحيوانيّة التي تؤدي غالبًا إلى تفكّك العلاقات الإنسانيّة والأسريّة.
وعلى هذا الأساس، من الخطأ اعتبار الحجاب الإسلاميّ دعوة لحجب الجمال، حتى الظاهريّ منه. لأنّ القضيّة هنا ليست عامّة شاملة، بحيث يُقال يجب الحجاب والستر مطلقًا وفي جميع الحالات والموارد ولا يجوز النظر إلى الجمال الجسديّ أبدًا.. فهناك هامشٌ كبير لهذا الاستمتاع وفق منظومة العلاقات الإنسانيّة الإسلاميّة (كما هو في بيئة الزواج). وعدم امتلاك الإنسان لكلّ اللوحات الفنّيّة في العالم، لا يعني أنّه لا يستطيع أن يستمتع بالنظر إلى اللوحة الجميلة التي يمتلكها في بيته؛ خصوصًا إذا علمنا أنّ هذه اللوحة هي عُصارة كلّ اللوحات، وتتضمّن جميع عناصر الجمال في الأعمال الفنّيّة الأخرى (ولهذا قيل أنّ الأمثلة تُضرب ولا تُقاس).
لا يوجد أي تشريع إسلامي ينهى عن النّظر إلى جمال الجسد مطلقًا. بل إنّ التأمّل في هذا النظام يؤكّد لنا أنّ القضية على العكس تمامًا. فالإسلام يريد أن يحفظ لنا ذلك الشعور والاستعداد البشريّ للتمتّع بالنظر إلى هذا النوع من الجمال من خلال قضيّة الحجاب. ومثال ذلك في أحكام الإسلام بخصوص المشروبات. فالذي يلتزم بأحكام الإسلام الناهية عن شرب الخمر يحفظ قوّة ذائقته ويصونها من الآفات، ويتمتّع بالمشروبات المحلّلة ويستلذ أكثر وأعمق ممّا يحصل لشاربي الخمور والمسكرات (كمًّا ونوعًا).
لهذا، فإنّ أصل تشريع الحجاب يرجع بالدّرجة الأولى إلى ستر جمال الجسد في ظروفٍ وأوضاعٍ معروفة، وعدم التظاهر به وتحويله إلى عرض ودعوة للاستمتاع، حيث لا يجوز ذلك ولا ينفع، بل لا يزيدنا ذلك إلّا حسرةً وخسرانا. وإنّ أي عرض يهدف إلى تلك الدعوة، فهو خلاف الحجاب الإسلاميّ، وإن كان بحسب الظاهر كذلك. وهذا ما يقدر العرف على تحديده وتشخيصه. كما يمكن لكل إنسان أن يشعر به بوجدانه. فالمرأة التي تكون هيئتها وهندامها داعية للأنظار، ستعلم في قرارة نفسها وتدرك ذلك، وستلاحظ بسهولة مدى تأثير لباسها وهيئتها على الآخرين. فإن كانت تخادع أحدًا، فهي لا تخدع سوى نفسها؛ لأن رسالة الشريعة الإسلامية ذات مضمون قيميّ واضح. ونحن كبشر قادرون على إدراك الجوانب القيميّة بوجداننا، ولا نحتاج إلى من يعلّمنا ويرشدنا فيها.
لكن، حين تختفي الأبعاد القيميّة عن السلوكيّات، يستسهل الجميع التلاعب بالأحكام والشرائع؛ وسرعان ما ينشأ شرع جديد لا علاقة له بالأصيل والإلهيّ. فإن أردنا الحفاظ على أحكام الدين، فنحن بحاجة ماسّة إلى تعميق القيم وترسيخها وإعلاء شأنها والبدء منها. ولا يوجد مبرر وراء هذا الإهمال سوى الجهل الذي ضرب ساحة تبيان الأحكام الشرعية. ولهذا، إذا أردنا أن نبحث عن أصل المشكلة، لا ينبغي أن نختبئ وراء أصابعنا ونلقي باللائمة على الغزو الثقافيّ الغربيّ والإباحيّة المستشرية، لأنّ أهلنا وشعبنا ونساءنا ورجالنا ما زالوا يتمتّعون بمقدارٍ وافرٍ من الوجدان والفطرة، يجعلهم يستبشعون كل مظاهر الغرب المنحط. ولو ذهبنا إلى المجتمعات الغربيّة لوجدن النساء يرزحن تحت ثقل عادات وأعراف تفرض عليهنّ التهتّك واللباس الفاضح وتحمّلهنّ الكثير من الأعباء والأثمان، لمجرّد كونهن جزءًا من ذلك المجتمع، ولضرورة العيش فيه.
إنّ الوجدان الإنسانيّ يتماهى تمامًا مع الحياء والعفّة والتوجّهات المعنويّة، وينفر من الانغماس في الحيوانيّة والبهيميّة، ويشعر بآلام فقدان الروحانيّة. لكن حين لا يجد هذا الإنسان سوى طريقٍ واحدٍ للانتماء والعيش والمقبوليّة، وهو طريق التهتّك وإظهار المفاتن (بحجاب أو بغيره!)، فإنّ ضعفه وحاجته وخوفه سيحملونه على مخالفة وجدانه وفطرته.

روح المجتمع
كتابٌ يُعدّ موسوعة شاملة ومرجعًا مهمًّا جدًّا يمتاز بالعمق والأصالة لكلّ من يحمل همّ تغيير المجتمع والسير به قدمًا نحو التكامل، يحدد للقارئ الأطر والأهداف والسياسات والمسؤوليات والأولويّات والغايات المرحليّة والنهائيّة في كلّ مجال من المجالات التي يمكن أن تشكّل عنصرًا فعّالًا في حركة التغيير، على ضوء كلمات قائد الثورة الإسلاميّة المعظّم روح المجتمع الكاتب: الإمام الخامنئي/ السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 19*25غلاف كرتوني: 932 صفحةالطبعة الأولى، 2017م ISBN: 978-614-474-020-0 سعر النسخة الملوّنة: 100$سعر النسخة (أبيض وأسود): 34$ للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراءه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:

قضايا الحياة الكبرى
حين تبدأ بالإحساس بوجود مجتمعات بشريّة ذات هويّات متعدّدة تعيش فيما بينها تفاعلًا قويًّا، وحين تدرك طبيعة هذا التّفاعل الذي يتّخذ سمة الصّراع في العديد من الموارد، وحين تكتشف مفاعيل ونتائج هذا الصّراع؛ فأنت إنسانٌ حيٌّ شاعرٌ مدرك. وهنا، ستحتاج إلى أن ترتقي بوعيك إلى المستوى الأعلى، حيث تفهم طبيعة ما يتولّد عن هذا التّفاعل الكبير من قضايا ـ تكون بمنزلة محدِّدات المسارات الكبرى.

زيف الغرب في الدفاع عن المرأة
يُطرح هذه الأيام الكثير من الإشكالات حول أحكام الإسلام فيما يتعلق بالمساواة بين المرأة والرجل. نعلم جميعًا أنّ قضية المساواة بين المرأة والرجل هي قضيّة أساسيّة في الغرب، ومنطلقات هذه الحضارة وتلك الثقافة تختلف تمامًا عن منطلقات الإسلام ورؤيته الكونيّة ونظرته للحياة. لكن الغربيين بفعل ما يمتلكونه من أدوات ضغط وقوّة ونفوذ يصرّون أن يملوا علينا ما يفهمونه حول هذه القضيّة، بل يشكلون على أساسها مواقف دولية تصل إلى حد الضغوط السياسية والاقتصاديّة. نحن إذا أردنا أن نفهم هذه القضيّة جيدًا، علينا أن نلتفت أن نظام التشريعات الإسلامي يقوم على نظامٍ قيميّ.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...