القاعدة الأولى لإعداد القادة

وما هو الخطأ الشائع في هذا المجال؟

السيد عباس نورالدين

يتعاظم الشعور بالحاجة إلى القادة الحقيقيّين في المنظّمات والحكومات والمؤسّسات في جميع أنحاء العالم.. هناك من يؤمن بأنّ القائد الواقعيّ لا يمكن صناعته، لأنّ القيادة موهبة تخلق مع الإنسان منذ الولادة. وهناك من يعتقد بأنّ الوسيلة الوحيدة لظهور القادة وبروزهم وحتى بنائهم إنّما تكمن في الأرض (حيث يقصدون بهذه العبارة البيئة المساعدة والتجارب الخاصّة). ولا يزال يتعاظم الاعتقاد اليوم بأنّ القيادة تقوم على مجموعة من العلوم والمعارف التي يمكن نقلها وتعليمها؛ أليس هذا ما تدّعيه معظم المعاهد والكلّيّات الإداريّة والقياديّة في العالم.
إنّ المواهب الإلهيّة والوراثيّة ـ التي تظهر بصورة الاندفاع والاهتمام الكبير بقيادة الآخرين وتحفيزهم وتوجيههم نحو أهدافٍ محدّدة ـ لا شك بأنّها موجودة في بعض الناس. وغالبًا ما يُعرب هؤلاء الأفراد عن مثل هذه المواهب، في المراحل الأوّليّة في المدرسة؛ فتراهم أينما تواجدوا يشكّلون محورًا وقطبًا يدور حوله الآخرون. ولا شك بأنّ لمثل هذه المواهب الفطريّة أهمّيّة بالغة في عمليّة إعداد القادة وبنائهم؛ وذلك لأنّها ترفد بطاقة كبيرة وبتفاعل مهم مع ظروف وبرامج الإعداد. ولهذا، فإنّ البرامج، التي تريد النجاح والتوفيق السريع، تعمل على استقطاب أصحاب المواهب أوّلًا.
إنّ ظروف الأرض والبيئة قد تكون عاملًا مهمًّا في تفعيل التوجّهات والمواهب والمهارات القياديّة، بشرط أن تتميّز بوجود تحدّيات كبيرة ومخاطر جمّة، كتلك المسمّاة بالتهديدات الوجوديّة. ففي مثل هذه الظروف، يندفع الجميع نحو نوعٍ من العقلانيّة، التي تجعلهم مستعدّين بملء إرادتهم لدعم قيادات مبتدئة، الأمر الذي يمنحها فرصة مهمّة للتكامل ومراكمة التجارب والخبرات وصقل شخصيّتها بسهولة.
يحدث هذا في الظروف العسكريّة والحربيّة الشديدة، حين يُقتل الضابط المسؤول مثلًا؛ ممّا يحتّم على عناصر المجموعة أن يختاروا بسرعة قائدًا من بينهم، وإن كان يفتقد للخبرة والتجربة والمعرفة؛ فيقبلوا به كيلا يضيعوا ويتشتّتوا ويتعرّضوا للفناء. وقد أثبتت مثل هذه التجارب أنّه ما زال للأرض الحصّة الأكبر في بناء القيادات؛
إلا أنّ ذلك لا يعني عدم إمكانيّة إيجاد وصناعة بيئات مماثلة، تحاكي الظروف الصعبة والشديدة، التي يمكن من خلالها تحفيز الطّاقات الكامنة وتفعيل المواهب المستترة. وتكمن أهمّيّة هذه المحاكاة في العديد من الأمور، مثل السيطرة والكلفة وعدد المتخرّجين. ولو استطعنا أن نوجد بيئة تحاكي الظّروف والتحدّيات والاستحقاقات التي يُفترض أن يواجهها القائد، ودمجنا معها عنصر استقطاب الموهوبين، لاستطعنا أن نجمع العناصر اللازمة لبناء أكبر عددٍ ممكنٍ من القادة في أسرع وقتٍ، وبأقل كلفة.
لكلّ قائدٍ في العالم، معرفة ورؤية وطريقة يحصل فيها على المعلومات اللازمة. ولعلّ هذه الموهبة هي أحد أهم ما يميّز القادة العظام؛ أي الاستفادة من كل قناة ممكنة للوصول إلى المعلومة المطلوبة. فللبعض طريقة المطالعة والكتاب، وللبعض أسلوب الاستماع والاستشارة، ولعلّ هناك من يتلقّى المعارف بطريقة قريبة للحدس. والقائد الأفضل هو الذي يجمع في شخصيّته بين جميع هذه الطرق ويستفيد منها بأفضل صورة ممكنة. فهو يعلم أنّ عليه أن يسلك أي طريق لأجل الوصول إلى المعلومة بسرعة، ولا يتّخذ موقفًا مسبقًا من أي وسيلة تساعده على ذلك. فكلّما كان القائد أسرع وصولًا إلى ما يحتاج إليه من معلومات لاتّخاذ القرار، كان ذلك أكثر تأثيرًا في مستوى قيادته وقوّتها.
لهذا، يجب أن تعمد برامج صناعة القادة إلى تقوية هذه المهارة (قوّة التعلّم)، بعد تبيان آفاق المعرفة والعلم (العلوم والمعارف الرائجة)، وتحليل قيمة المناهج التي استخدمها البشر لاكتشاف الحقائق والوقائع (مناهج البحث العلميّ). وهذا ما يستدعي قبل أي شيء امتلاك رؤية كونيّة واضحة تبني منظومة شاملة لكل مكوّنات الوجود وترسم العلائق بينها.
حين يتمكّن القائد من تحديد موقع النبوّة والإمامة والملائكة والعلماء والمجتمع والجماهير والذهب والفضّة والتكنولوجيا وكل الظواهر الوجودية في هذا العالم الكبير، ويتعرّف إلى المحور الأوّل الذي تدور حوله هذه الظواهر وتتفاعل معه، فإنّه يكون قد بنى تلك الرؤية العلميّة، وأحكم القواعد الثابتة التي يستطيع أن ينطلق منها لمراكمة معارفه بصورة بنائيّة شديدة الإحكام والإنتاجيّة. وفي الواقع، هذا هو الشيء الذي نعبّر عنه بالحكمة، التي من أوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا. إنّه الخير الذي ينبع من القدرة على أخذ القرارات المناسبة في الأوقات المناسبة.
للظروف والتجارب الحياتيّة المختلفة مخرجات علميّة كثيرة؛ ولأجل اصطياد كل هذه المخرجات أو جلّها، يحتاج القائد إلى تلك الرؤية الحكيمة؛ فهي أشبه بشباك الصيد، الذي كلّما كان أشدّ إحكامًا وأكثر إحباكًا، كان أكثر صيدًا. فالعقل هو حفظ التجارب، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام). وإنّما ينمو العقل بواسطة الاهتمام بالوصول إلى المصالح والمنافع. فمن بحث عن المصلحة المطلقة في أيّ شيءٍ يواجهه، استنار قلبه بنور العقل الذي يهديه إلى واقعه وحقيقته.
إنّ قادتنا المستقبليّين بحاجة إلى الجمع بين التجربة المُعاشة ـ التي تفسح لهم في آمالهم وتقيل عثراتهم ـ وبين روحيّة التعلّم التي تنطلق من تلك الرؤية العلميّة والروحيّة البحثيّة القائمة على حكومة العقل. وفي ظلّ هذه البيئة الإعداديّة الرّائعة تقوى مواهبهم، وتشتد عزائمهم، ويدركون منابع القدرة الواقعية ويتّصلون بها.