النهضة العلمية أفضل وسيلة للتمهيد
"وَلَوْ أَنَّ أَشْيَاعَنَا وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ عَلَى اجْتِمَاعٍ مِنَ الْقُلُوبِ فِي الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ الْيُمْنُ بِلِقَائِنَا وَلَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا عَلَى حَقِّ الْمَعْرِفَةِ وَصِدْقِهَا مِنْهُمْ بِنَا فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ وَلَا نُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيل".
لا شيء يمكن أن يجمع القلوب مثل الاتفاق على رؤية كونية واحدة تتجلى في ميادين العمل والحراك الاجتماعي. الرؤى الكونية التي تشكلت من رحم الجدالات الكلامية بين المذاهب كانت منقطعة إلى حدٍّ كبير عن الحياة وقضاياها المصيرية. اتسعت الهوّة مع مرور الوقت بين العقيدة والواقع. هذا ما سمح للنزغ أن يتسلل بين المؤمنين بعقيدة أو رؤية كونية واحدة.
الاتحاد والاجتماع لا يُمكن أن يتحقق إلا إذا امتلك الأفرقاء رؤى موحدة حول الحياة الاجتماعية. والتقية رغم أهميتها ودورها في حفظ الفئة القليلة، يجب أن تُغذّى بأهداف وتطلُّعات اجتماعية واضحة، وإلا أدت إلى فناء الجماعة واضمحلالها. في ظل التقية، كان البديل عن الحراك السياسي العلني: التأكيد على أهمية التآخي والتراحم والتعاون بين المؤمنين، ويظهر ذلك في الرسالة التي وجهها الإمام الصادق عليه السلام لشيعته.[1] السر الذي يجمع هؤلاء ويقدمهم كجماعة فريدة هو أنّهم يتحينون الفرصة المناسبة للإعلان والخروج للناس كخير أمة؛ فهم يعيشون هذا الانتظار في كل لحظة، ولكي يكونوا مستعدين للخروج يجب أن يحفظوا اللحمة فيما بينهم ويرتقوا بها إلى أعلى الدرجات المتصوَّرة.
ما الذي يجمع فئة قليلة سوى التباحث في المسائل المهمة ومذاكرتها؟ كل شيء آخر لن يتمكن من إيقاد شعلة التواصل وحفظ شرارتها في النفوس. جرّب اليهود لآلاف السنين حفظ شعلة المصالح الاقتصادية فيما بينهم، ونجحوا إلى حدٍّ ما في الاقتصاد، لكنّهم أصبحوا متنازعين ومنقسمين أشد الانقسام وأنت تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، حتى تسلط عليهم الذين كانوا تحتهم ذات يوم.
الطريقة الوحيدة لتحقيق أقوى درجات التواصل هي وجود قضايا مهمة تتم مناقشتها وتعميق النظر فيها، وهذا هو جوهر التبادل العلمي والتعليم والتبليغ.. ولأجل تحقيق هذا الأمر وتيسيره، ألقى أئمة الهدى بين أشياعهم بعض العلم الذي يمكن أن يرتقي بهم إلى مصاف التفوق والتميز العلمي على صعيد معرفة الشريعة والدين والحياة. يصبح هذا التفوق العلمي عنصر قوة في المجتمع، يصون أهله ويحفظ كيانهم الخاص في أشد المصائب وأحلك الفتن.
لكنّ إعراض الأتباع عن هذا التراث صار السمة البارزة وكثر نعتهم بالجهلة والسفهاء[2] وأضحى مستفحلًا في العصور الأخيرة. صار العالِم فيهم مهجورًا، فُهجر العلم نفسه؛[3] وما بقي منه كان يجب إعادة إنتاجه ليؤدي الدور المطلوب.
هكذا نقف اليوم أمام هذا التحدي الكبير وهو أنّه كيف يمكننا تحريك بركة العلم الراكدة لتجري سيولًا وأنهارًا في أراضي نفوس المؤمنين، عسى أن يتفطّنوا إلى تميُّزهم على جميع الأُمم بفضل ما ألقاه إليهم أئمتهم من علومٍ لا مثيل لها.
هذا ما يستدعي التفكير العميق بنهضة علمية حقيقية. والمانع الأكبر سيطرة فكرة الحد الأدنى المطلوب من العلم وإصرار المعنيين على تسقيف العلم الذي يؤدي إلى سطحية عجيبة. يرجع هذا التفكير إلى غلبة المنهج الكلامي في تناول قضايا الوجود وتفرُّده في ساحة الفكر، الأمر الذي أدى إلى تحوُّله عائقًا مقابل خطة أهل بيت النبوة ومانعًا من تطبيقها.
علم الكلام الذي دخل إلى ساحة الشيعة مستفزًا ومستنفرًا ثم أصبح قاعدة لبناء المذهب، ورغم ما حققه من إنجازات على صعيد ترسيخ بعض الأفكار، إلا إنّ مشكلته هي في أنّه أصبح القاعدة الوحيدة التي ننطلق منها للتعامل مع العلم والمعرفة. ولأنّ هذا العلم بُني على تقرير الحد الأدنى فيما يجب الاعتقاد به، كان بمنهجه هذا نقيضًا للدعوة الرسالية التي أعلن عنها الله في كتابه المجيد: {هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبين}.[4]
المُستهدفَون أُمّيون والهدف هو تعليمهم الكتاب والحكمة. والحكمة مُطلقة لا حدَّ لها والكتاب جامع العلوم كلها.
وبسبب تلك المهاترات المذهبية والجدالات الكلامية انصرفت مُعظم الجهود العلمية إلى الاثبات والرد والنقض، بدل أن تنكب على استخراج كنوز المعرفة وجواهر الحكمة من كتاب الله وتراث النبوة. فضاع الهدف الأسمى وتحوَّل المسلمون على مدى العصور إلى عالة على الآخرين يستجدون علومهم في كل شيء تقريبًا.
النهضة العلمية اليوم تتطلّب حل إشكالية كبرى، وهي التي تظهر بصورة هذا الانقسام الشديد بين أهل العلم والعوام. انقسام تحوَّل إلى ما يُشبه القطيعة، حيث لا يشعر الناس بالحاجة إلى علماء الدين إلا في جزءٍ ضئيل من شؤون حياتهم.
وفي الوقت الذي كان يُفترض بالبعثة أن تُحدث ثورة عارمة تتحول إلى تيار عام يتحرك نحو الكتاب والحكمة، تم إخماد هذه الشعلة، حين قبِل معظم أهل العلم بوجود هذه الازدواجية في شخصية المؤمن، حيث أقروا له بالإيمان في الوقت الذي لا يكون للنبي ورسالته وأهدافه متّبعًا، فأي إيمان هو هذا الذي لا ينسجم مع الهدف الأكبر للبعثة التي كانت لأجل تعليم الكتاب والحكمة.
الذي رسّخ فكرة المؤمن هذه هو تلك المتطلبات المذهبية المرتبطة بظروف سياسية، والتي كان يُفترض في أحسن الأحوال أن تكون قضية جزئية في الرؤية الكبيرة والشاملة؛ حيث يمكن تبرير ذلك بحاجة المجتمع إلى تعريفات وتصنيفات لإجراء بعض الأحكام وتطبيقها؛ لكن قضية الإيمان والاتّباع هي أوسع وأعمق، وكان يُفترض بذل المزيد من العمل لبلورتها وترسيخها.
لا يشعر المؤمن الفقهي اليوم بأي حرج إن قضى حياته كلها بعيدًا عن علوم أهل البيت وتعاليمهم. ثم نأتي ونتساءل ونتعجب من ضعف الأواصر وقلة التراحم وكثرة الشقاق بين من يُفترض أن يكونوا أقوى جماعة على وجه الأرض.
يتوق الكثير من أهل العلم إلى تحقيق هذا الاجتماع القلبي والتلاحم الأخوي بين الموالين لأهل البيت عليهم السلام والمحبين. وكل واحد يحمل في ذهنه تصوُّرًا لحل هذه المشكلة؛ تصوّرًا سرعان ما يقف عاجزًا عند أول مراحل التطبيق. لدينا مثل هذا الكنز والرصيد الذي يمكن أن يحقق هذا الهدف، لكن رؤيتنا التي تشكلت في عالم الجدال المذهبي تمنعنا عن رؤية الحقيقة.
كيف يمكن لنا أن نُسري هذا التراث المعرفي ليسيل أودية بقدرها في كل مجتمعات الموالين ومؤسساتهم وتجمعاتهم؟ هذا هو السؤال الأكبر الذي لا شك يتطلب عبقرية خاصة للإجابة عنه بما يتناسب معه. فتسييل التراث أمر غير ممكن في ظل وجود كل هذه الصخور والعوائق العالقة به. كيف لماءٍ أن يجري سلسًا رقراقًا وهو ممزوج بكل هذه الوحول والأحجار والأكوام.
لتحقيق نهضة علمية عامة نحتاج إلى تصفية الحوض الذي صب فيه المنبع والمصدر بعض ماء. وإنّما يكون هذا الأمر ممكنًا حين يُعاد النظر في كل مسائله وأجزائه على ضوء الدور الاجتماعي الكبير لهذه الثلة المؤمنة التي وُجدت لإنقاذ العالم.
في البداية، كانت الانطلاقة العلمية على أساس اكتشاف الهوية وحفظها مقابل الآخر. لم يكن هناك من يحلُم بوجود دورٍ محلّي فضلًا عن أن يكون عالميًّا. تحوَّل حفظ الوجود إلى أولوية مُطلقة بمعزل عن كونه وسيلة. وهكذا غلب الانفعال على الفاعلية وغرق الجميع على مدى العصور في أتون قضايا الحياة الباهظة.
عجزنا اليوم عن أن نسري هذا التراث في كل جسد الأمة ـ بعد حصولنا على إمكانات لم يكن يحلم بها الأولون منا والآخرون ـ يرجع إلى أنّنا لم نخرج من هذه الانفعالية على الصعيد العلمي، وإن كنّا نسعى للخروج منها على المستوى السياسي.
الآمال التي تعاظمت منذ أكثر من أربعين سنة باستعادة الدور العالمي تكسّر الكثير منها على صخور الانفعالية العلمية المتجذرة. تصوَّر الكثيرون أنّ التراث هو المسؤول عن هذا التحول الذي بدأ بثورة شعبية عارمة، في حين أنّ تحدّي التراث هو الذي ولّده.
لا ننسى هذه الكلمة التي قالها باعث هذه الثورة وقائدها في أواخر أيام عمره الشريف:
"علينا أن نسعى لتحطيم قلاع الجهل والخرافة حتى نصل إلى النبع الزلال للإسلام المحمدي الأصيل (صلى الله عليه وآله). وأغرب شيء اليوم في هذه الدنيا هو هذا الإسلام، ونجاته تحتاج إلى قربان، ادعوا لي أن أكون أحد قرابينه".[5]
[1]. مكاتيب الأئمة، ج4، ص111.
[2]. عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُءُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا. [الكافي، ج1، ص31]
[3]. عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (ص) أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. [الأمالي للمفيد، ص20].
[4]. سورة الجمعة، الآية 2.
[5]. صحيفة الإمام، ج21، ص145.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...