حول تسييل العلوم في الحياة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب العلم والعرفان
لكي يسيل العلم في الحياة يحتاج إلى أمرين أساسيين: اعتناقه كمبدأ للتعامل مع قضاياها مقابل نهج اتّباع الأهواء، وبناء المؤسسات اللازمة والمتوافقة مع هذا المبدأ.
هذا النوع من المؤسسات هو الذي يُرسخ مسار تطبيق العلم في مختلف شؤون الحياة، بعد أن يتم تبنّيه كأساس في صناعة القرارات والخطط والبرامج والمشاريع. وهذا ما يتطلب جعل العلم عنصرًا أساسيًّا في الكفاءة الإدارية والقيادية وغيرها.
تحديد مراتب العلم التي تكون معيار تحديد الأعلم ليس بالأمر البسيط. يتطلب ذلك تشكيل مسارات خاصة وإقامة مضامير متناسبة؛ بعضها ينشأ ويُبنى داخل المعاهد التعليمية والمراكز البحثية؛ لكن الأمر يجب أن يتجاوز طريقة الشهادات المُعتمَدة حاليًّا.
رغم ما يُقال عن علاقة الغرب بالعلم وتجربته فيها، من الصعب أن نُطلق على مجتمعاته صفة المجتمعات العلمية. معظم القرارات التي تصدر هناك تنبع من الأهواء والألاعيب الإعلامية ومن خدعة الأكثرية والديمقراطية.
لا يمكن لمجتمعٍ قام على اتّباع الشهوات أن يصبح مجتمعًا علميًّا. قضية إباحة الخمور والتشجيع عليها واحدة من أبرز القضايا التي تكشف عن ذلك. رغم أنّ هذه المادة المهلكة تتسبب بخسائر فادحة لا يمكن جبرانها، لم يتمكن أي مجتمع غربي من العمل وفق المعطيات الإحصائية والتجريبية اليقينية التي تؤكد ضرورة منعها وتحريمها. بنية هذه المجتمعات غير قابلة لتكون علمية.
العلاقة بين المشرّعين والعلماء ـ حتى لو كان المشرّعون من العلماء الذين ينتخبهم الشعب ـ يجب أن تكون علاقة إلزام لا إرشاد. لماذا لم يتمكن المجتمع المسلم من اكتشاف مدى أهمية كون الأجهزة التشريعية مبنية على العلم، حيث يتم ترشيح أي شخص لمجرد أنّه لا يخرق الدستور لا لكونه عالمًا. الأمر أبعد من ذلك.
يُفترض أن تكون الأجهزة التشريعية قائمة على المعطيات العلمية بمناهجها المختلفة لا على تصويت الأكثرية. هنا يجتمع أعضاء الجهاز التشريعي لمناقشة الأبحاث والدراسات المقدَّمة للتأكُّد من قابليتها للتحوُّل إلى قوانين وتشريعات.
إذًا، لكي يتحقق المجتمع العلمي يجب أن نبدأ من أهم مؤسساته وأعلاها. وفي غير هذه الصورة لا يمكن تحقيق هذا الهدف. طريقة تصويب المعطيات العلمية في مثل هذه الأجهزة يجب أن تكون علمية بالكامل.
حين تقوم التشريعات التي هي الموجّه الأول للحكم والأنشطة العامة على العلم فسوف ينشط العلماء والباحثون للمشاركة. تنطبق هذه المقولة حينئذ حين قال عليه السلام: "الْمُلُوكُ حُكَّامُ النَّاسِ وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ".[1]
يدرك العلماء أينما كانوا أنّهم أصحاب القرار الفعلي وأنّ الوسيلة الوحيدة للتأثير والتغيير والتقدُّم هي العلم.
مع تطبيق سياسات الشفافية والانفتاح والحرية الإعلامية ينشر العلماء أبحاثهم واستدلالاتهم في مختلف الوسائل الإعلامية لكي يطّلع الناس عليها ويراقبوا حكوماتهم وبرلماناتهم على هذا الأساس. يمكن حينها أن يكتشفوا أي مشكلة أو خلل من خلال المطابقة. لا تضيع الأخطاء وسط الصراعات الحزبية وحكم الأكثرية وتداول السلطة.
هكذا يتجه العلم نحو إدارة المجتمع وتتأمن أرضية الثورات العلمية وقفزاتها النوعية. لا يعود الانتماء الحزبي هو الوسيلة ولا اللوبيات وجماعات الضغط ولا أي طبقة ذات وزن اجتماعي خاص. يمكن لعالِم واحد أن يغيّر مجرى الأمور بأسرها. العلم هو الحاكم لا غير.
لن تكون الحكومة وجميع أجهزتها ومؤسساتها سوى انعكاس لهذا النمط. الجميع مُلزمون ببناء قراراتهم على أساس العلم. تتم المحاسبة بناءً على ذلك. فلو اكتُشف أنّ أي جهاز تنفيذي تغاضى عن معطيات العلم يجب إيقافه ومعاقبته. هنا ينبغي أن تكون المهمة الأولى للحكومة إفساح المجال لأوسع وأكبر مشاركة من العلماء من خلال رسم الخطوط العامة والهندسة الكلية لحاجات البلاد ومتطلبات التقدم.
تكون هذه الخارطة العامة بمثابة الموجّه لجميع المؤسسات العلمية والعلماء في البلاد. لا تعمل الجامعات ومراكز البحث في عالم آخر ولا تكون الاهتمامات البحثية في وادٍ يختلف عن وادي الحكومة وأجهزة التنفيذ.
ومع اتجاه المجتمع نحو العلم تتكشف الحاجات العلمية والثغرات المنهجية ويتبين موضع النقص والحاجة إلى مناهج خاصة لم تكن مزدهرة من قبل. تتفتح أبواب الغيب وتتنزل المعارف والعلوم الملكوتية ويكتشف الناس مدى الحاجة إلى تلك الرابطة الخاصة بينهم وبين الله.
لن يخوض هذا المجتمع صراع المناهج، لأنّ التجارب الحسية ستتعاضد مع العقل والنقل والشهود والكشف، وتكون الكلمة للظن المُعتبر إن لم يكن من يقين؛ حيث سيهدي الله هؤلاء القوم بإخلاصهم وينجيهم من الوقوع في الباطل والوهم.
الانسداد الذي يصل إلى حد الاحتقان ومعه تنغلق كل أبواب الغيب إنّما ينشأ بسبب عدم اعتماد طريقة التخطيط الكلي وتبيان الخارطة العامة والخطوط الكلية التي تكون بمثابة الدعوة العامة لمشاركة الجميع. تنغلق المؤسسات على نفسها وتسد أبواب الاستفادة من العقول والطاقات الخارجية لأنّها تتحول إلى مصالح شخصية وأماكن للاعتبار والشهرة والاستعلاء. يجلس مسؤولوها ويضربون كفًّا بكف بسبب حجم الإخفاق والتراجع والفشل والنقص والخسائر، وهم لا يعلمون أنّ الله تعالى لم يكلف المجتمع إلا وسعه وأنّه تعالى قد جعل الوسع في المجتمع لكل خيرٍ وازدهار.
ابحثوا عن أسباب كل هذا الانسداد والجمود وضعف التقدم وبطء السير في عقلية هذه المؤسسات التي لم يكتشف أصحابها طريقة العلم في الإدارة، وهم يحسبون أنّ استخدام بعض حملة الشهادات يكفي لتحقيق ذلك.
طريقة العلم في الإدارة لا تتحقق إلا في ظل الانفتاح التام على العلم ولو كان في الصين. الانفتاح التام يُحتم طريقة خاصة في الإدارة لا نتعلمها في أي مكان. وخصوصًا في الجامعات التي يُفترض أن تكون أول من يطبق هذه الطريقة.
نجد جامعات العالم تعتمد طريقة التخطيط الهرمي الذي يسيطر عليه شخصٌ واحد أو عدة أشخاص. تتحدد مصائر الجامعات على ضوء إدارة هذا الرئيس أو ذاك العميد. حظ الجامعة يعتمد بشكل كبير على شخصية هذا الرئيس وتطلعاته وسعة صدره وفهمه. أضحت الجامعات مؤسسات خاصة حتى لو كانت حكومية أو تابعة لأحزاب ومنظمات.
الجامعة العلمية هي التي تنفتح على العلم ولا تحد منه أو تقرر مساره. يجب أن تقيم مناهجها التعليمية على أساس توسعة سبل الوصول إلى المعرفة وتحقيق الاستفادة القصوى من نتاجات العلوم في كل العالم. لا يجوز لمدرائها أن يقرروا المنهاج إلا على هذا الأساس؛ وهذا يعني ضرورة أن يكون منهجًا واضحًا في عمليات التخطيط والبت.
تعاني معظم الجامعات والمراكز العلمية من السياسات الاستبدادية والتسلطية بما لا نراه حتى في المؤسسات العسكرية. يمكن للمسؤولين في مثل هذه المراكز أن يخفوا استبدادهم ظنًّا منهم أنّهم فوق الرقابة. يُعتبر أي نقاش في المناهج بمثابة تحدي للسلطة العليا وتعدّيًا على كل الضوابط والحدود. يجري القمع بقوة غير معهودة. ينطلق خريجو هذه المراكز العلمية من جامعات ومدارس دينية وغيرها للعمل في مختلف المجالات وليس لديهم سوى هذا الأنموذج الاستبدادي. تتشكل الشخصية المتذبذبة الازدواجية من رحم الأمكنة التي يُفترض أن ترعى الانفتاح الذي هو أول شرط للإدارة العلمية.
[1]. كنز الفوائد، ج2، ص33.
6.لا طبقيّة في المجتمع العلمي
إن تقسيم المجتمع الى طبقتين عالمة وعامية له جذوره في الرؤية التي سادت في أوساط أهل العلم طيلة قرون من الزمن، باعتبار أن العلم الذي ينبغي الوصول إليه حكر على عدد قليل من الذين يتمتعون بالمقدرة العلمية والذهنية، وعلى باقي الناس أن يعملوا وفق ما تقوله هذه الفئة القليلة. لكن الرؤية الصحيحة للعلم تبيّن أنّ العلم متاح للجميع ويمكن لهم أن يصلوا إليه بسهولة فتنتفي الطبقية العلمية التي هي أحد أسوأ أنواع الطبقيات في تجارب التاريخ.
2. من أين ننطلق لنصنع المجتمع العلميّ؟
هل تعلم أنّ المجتمعات البشرية تعاني كثيرًا من الجهل؟ المجتمعات الإسلامية اليوم لا تمتلك الكثير من المعارف والعلوم التي تحتاج إالها في إدارة شؤونها وتحقيق التقدم والازدهار.. هل تعلم أنّ القرآن الكريم يتضمن كل ما تحتاج إليه البشرية من معارف وإنّه المصدر االوحيد للعلم فكيف نصل إلى معارف القرآن؟
3. أركان المجتمع العلمي، دور المفكّر في بنائه
لكي يتحقق المجتمع العلمي لا بد من تشكّل سلسلة من الحلقات تبدأ من المنبع الحقيقي لتصل إلى الإبداع والفن فما هي هذه الحلقات وكيف تتصل وتتواصل؟
5. ضرورة الإنتاج الفكري في المجتمع العلمي
يحتاج المجتمع العلمي إلى المفكرين لأنّهم يقومون بتطبيق مبادئ الإسلام والاجتهاد وأصول الشريعة على الواقع المُعاش والقضايا الزمانية، ففي كل عصر وزمان هناك مقتضيات تنشأ من التطوّر والتحوّل الاجتماعي والسياسي والتكنولوجي، وكل هذه تؤدي إلى نشوء قضايا تحتاج إلى عملٍ فكريٍ أصيل.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...
مجالات وأبواب
نحن في خدمتك
برنامج مطالعة في مجال الأخلاق موزّع على ثمان مراحل
نقدّم لكم برنامج مطالعة في الأخلاق على ثمان مراحل