
لبنان الضعيف ووهم الدولة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب بحثًا عن حضارة جديدة
خُلقت الدول الصغيرة لتكون ضعيفة. والدولة الضعيفة لا بد أن تستعين بغيرها لكي تبقى. ما من خدمات دولية بالمجان. بعض الخدمات تكون مكلفة جدًّا إلى حد تدمير الدولة الضعيفة نفسها. الذين ابتدعوا لبنان كدولة، كانوا يعلمون منذ البداية أنّ هذا البلد الصغير سيحتاج إليهم دائمًا، وبذلك سيحافظون على موطئ قدم لهم للتدخُّل في المنطقة التي تُمثل لهم مصالح استراتيجية كبرى.
أحبت بعض الجماعات السكانية في لبنان هذه الفكرة، لأنّها تعتنقها ثقافيًّا ودينيًّا. التبعية لفرنسا والغرب ليست بالفكرة السيئة عندهم (بحسب ما روجوا له) خصوصًا إذا جلبت معها منافع كثيرة لهم! هكذا تواطأت هذه الجماعة مع أي طائفة يمكن أن تشاركها هذه العقيدة من أجل الضغط على الطوائف الأخرى التي قد تستنكر وتعارض. أصبح شعار "قوة لبنان في ضعفه" مُتبنًّى من قبل عددٍ لا بأس به من اللبنانيين الذين شاهدوا ثماره على مستواهم الشخصي.
وفي الوقت الذي يعرف الجميع أنّه لا يمكن لأي دولة صغيرة أن تستمر وتزدهر في مثل هذا النظام العالمي الذي يأكل فيه الكبيرُ الصغيرَ، يصر هؤلاء المتنمّرون على فكرة هي غاية في الغباء والسطحية. ثم يستخدمونها لقمع أبناء وطنهم الآخرين ومحاصرتهم وإحراجهم وتصويرهم بمثابة العملاء لقوى أخرى.
الذين عملوا طيلة عقود على إبقاء لبنان ضعيفًا حين كانوا في مواقع الحكم والنفوذ، باتوا يسخرون ويتهجمون على من يعمل على تقويته.
حسنًا، لنتفق على أنّ الجميع يريدون للبنان أن يكون قويًّا؛ لا يوجد لبناني يحب لوطنه أن يكون ضعيفًا. لكنّنا منقسمون حول كيفية تحقيق هذا الاقتدار. فئة تُصر على كيانٍ ضعيفٍ بذاته كطريقٍ لاستجداء المساعدات من دول لن تُطالبها بالتخلي عن أي من معتقداتها وأفكارها ونمط عيشها. ولذلك فإنّ طرحها لفكرة "أنتم لا تشبهوننا، ونحن لا نشبهكم" لم تصدر من هذا الفريق جُزافًا. إنّها واحدة من الرسائل التي تبعثها للدول الداعمة لها مؤكدةً على بقائها على التماهي الثقافي. الدول الداعمة تشترط لاستمرارها في تقديم المساعدات للبنان الضعيف أن يبقى على طريق التبعية الثقافية. بعض الطوائف تجد في هذا التماهي الثقافي شيئًا طبيعيًّا، لا يمنعها عنه أي دين أو معتقد. وبعض الطوائف تجده تهديدًا وجوديًّا لأنّه يُخالف أبسط معتقداتها.
إنّ عمق المشكلة هنا؛ وأي محاولة لإصلاح الوضع في لبنان لبناء دولة حقيقية بعيدًا عن هذه القضية لن يُجدي نفعًا. عدم التشابه المطلق الذي يطلقه فريقٌ لبناني ليس بالأمر البسيط مهما تم التغاضي عنه. إنّه الشعار الأخير الذي يتمسكون به كقضية صراع يمكن أن تحشد الكثير من الإمكانات والطاقات، وبالتأكيد تجلب الكثير من الدعم الخارجي. هذا في الوقت الذي يتجه العالم كله نحو التسامح ونبذ العنصرية والتقارب الثقافي وحوار الحضارات، يصر هذا الفريق على أن يعيش الماضي الذي عفّى عليه الزمن.
تُدرك جميع الدول الصغيرة وحتى المتوسطة أنّ بقاءها مُرتهن بالعلاقات الطيبة مع جيرانها الذين يُمثلون امتدادًا طبيعيًّا لوجودها. كلما توطدت العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية والأمنية مع الدول الأخرى بات بالإمكان حفظ البقاء أكثر. لكن هناك فريق عمل منذ تأسيس لبنان الكبير على عزلة لبنان عن محيطه كطريقة لتحصيل الاقتدار.
الدول الصغيرة إما أن تتشابك مع الدول التي تتشارك معها ثقافيًّا وحضاريًّا فتحفظ هويتها، وإمّا أن تفعل ذلك مع دول بعيدة عن ثقافتها فتُقامر في حفظ هويتها. الداعمون يشترطون التنازلات الثقافية حتى لو جرى ذلك بطريقة غير مباشرة. فلبنان الضعيف إذًا يعيش هذا الصراع منذ أن تشكل كدولة صغيرة. ولأنّه متشكل من طوائف متنافرة ثقافيًّا بحسب ما يُخيَّل لأهله، فإنّ هذه الطوائف كانت تبحث عن الداعمين بما يتناسب مع ثقافاتها. هذا مفهوم، وإن كان يحتاج إلى علاج. لكن من غير المفهوم هو أن تعمد بعض الطوائف إلى الطعن بالطوائف الأخرى وتتهمها بالشيء الذي تمارسه هي منذ عقود؛ وهو الطعن بالعمالة.
إن كان استدرار الدعم من الخارج عمالة، فهذا يعني أنّ قسمًا كبيرًا من شعوب العالم هم عملاء. كما إنّ هذا الفريق الطاعن هو عميل ولا شك. وإن كان تقديم الدعم من دولة خارجية يمثل احتلالًا، فلبنان كان ولا يزال محتلًّا من قبل بعض الدول الأوروبية وأمريكا.
يعلم الطاعنون والشاتمون أنّ مصير هذا النزاع هو الافتراق، وأنّ لبنان لا يمكن أن تقوم له قيامة في ظل التناحر الطائفي، لذلك يحلمون في قرارة أنفسهم بدولة خاصة بهم. وهذا هو المشروع الوحيد الذي يحركهم ويقف وراء أدائهم السياسي على كل الصعد.
وراء كل هذه الشعارات والاتهامات مشروع واحد وهو العودة إلى لبنان الصغير. لكن هذا "اللبنان" يصعب تصور حدوده وسط كل هذه الفسيفساء الطائفية العجيبة. حتى أعتى الأدمغة الاستعمارية ستعجز عن رسم حدود لبنان الصغير لهذا الفريق الذي يصر على إمكانية تحصيل القوة من خلال الضعف.
إذا استطاع اللبنانيون أن يتفقوا على منطلقاتهم الدينية ومبادئهم الأساسية ويعودوا إليها بكل إخلاص، فسوف يكتشفون الطرق الصحيحة لتحصيل القدرة. يجب تعميق الفكر والعقيدة والدين عند كل طائفة؛ فبهذه الطريقة سيتمكن الجميع من اكتشاف الكثير من المشتركات وسيعرفون أنّهم أقرب إلى بعضهم البعض أكثر مما يتصورون.
روح المسيحية وروح الإسلام هي التعايش والمحبة للإنسان الآخر والتسامح والتقارب والتعاون. ولم يحصل الافتراق والتنازع والعداء إلا حين ضعف التدين عند الجميع، فتسلل الإقطاعيون أصحاب المصالح ليستغلوا الأديان من أجل استدرار الدعم الخارجي. لم تشتعل الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 إلا حين أضحى اللبنانيون من أبعد الشعوب عن دياناتهم، وذلك حيث تفشت فيهم التوجهات الدنيوية والمادية والنزعات الشهوانية. قد يدهشك حين تعلم أن تلك الحرب البغيضة اشتعلت في وقتٍ كان اللبنانيون متشابهين إلى حدٍّ كبير في نمط العيش.
المادية والشهوانية أساس العداء والتباغض والتناحر والأديان هي أساس التقارب والتشابه.

عن قوة لبنان في ضعفه... كيف نرى الضعف اللبناني؟
إنّ الانشطار الثقافي بين الطوائف اللبنانية مبني بالدرجة الأولى على صراع المكتسبات لا الحوار أو الصدام الثقافي. فلا يوجد أي نوع من الحوار الثقافي الجاد بين اللبنانيين، الذي يُفترض أن يبحث عن المشتركات (وما أكثرها) ويبني عليها الهوية الوطنية التي هي أساس قوة لبنان وتماسكه.

هل يمكن أن ننتصر على الطائفية؟
الطائفية في بلد صغير كلبنان أساس المصائب والبلايا. فأي إصلاح سياسي أو إداري سوف يرتطم بصخورها المنيعة ويتكسر متبعثرًا في الهواء كما يتبخر الماء. معظم اللبنانيين يرون المشكلة ويعرفون السبب، لكن من النادر أن نجد من يسمح لنفسه في دراسة هذه الظاهرة وتحليلها بعمق، عسى أن يجد لها حلًّا ومخرجًا.

عن النفوذ الإيراني في لبنان
الحديث عن النفوذ الإيراني في لبنان وإن كان مادة للمهاترات السياسية وممارسة الضغوط المكشوفة على المستوى المحلي، إلا أنّه لم ينفك يومًا عن لعبة الصراع العالمي الذي تتزعم أمريكا أحد أقطابه. ولأنّ هذا الحديث يمثل فرصة مهمة للتعمق الفكري والسياسي، فمن المهم أن تناقشه عقول الأذكياء وتعمل على بلورته إعلاميات النبهاء.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...