حين تقع المصارحة ضحية الهيبة
كيف نشجع أولادنا على مصارحتنا
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب تربية الأولاد وكتاب أولادنا
وجود تواصل فعّال بين الآباء والأبناء هو أحد أهم أركان الحياة العائلية الطيبة. قد يكون هناك تواصل لكنه لا يكون فعّالًا. يقال إنّه لا يوجد قطيعة، فالكل يتحدثون ويتزاورون، لكن ما ينقص هنا هو ذلك التواصل الذي يعبّر عن وجود الثقة الحقيقية بالآخر. بواسطة الثقة يمكن إتمام كل المعاملات الحسنة.
لكي نشجع أولادنا على مصارحتنا يجب أن نمثّل لهم ذلك العنصر المفيد أو الملجأ الوثيق الذي يُحدث فرقًا في حياتهم. قد تحدّثني نفسي أن أُصارح والدي، لكن ما الجدوى من ذلك إن لم أنتفع بنصيحة منه أو إعانة أو تنبيه؟! يجب أن يشعر أبناؤنا بأنّنا نقدم قيمة مضافة لحياتهم. وهذه القيمة المضافة موجودة في الواقع عند معظم الآباء والأمهات، لكن لا يشعر بها الأبناء غالبًا.. لماذا؟
أحيانًا يكون السبب هو أنّ الآباء قد فضلوا منذ البداية تغليب قضية الهيبة السلطانية على الأمور الأخرى. هذا مفهوم في مرحلة عمريةٍ ما؛ حين لا يقدر أبناؤنا على التمييز بين الحُسن والقبح والخير والشر والنافع والضار، فنضطر إلى التسلُّط عليهم والتحكُّم بحياتهم من أجل نجاتهم من الشر والضرر. لا يمكن أن نُقنعهم بأنّ هذا الشيء ضار وذاك الشيء خطر. يصبح الحوار عديم الجدوى لفقدان المنطق والقدرة على التمييز. لكن قد يستمر الأمر على هذا المنوال أكثر من المدة أو المرحلة الطبيعية وذلك دون أن نلتفت، فيصبح أي نقاش من قبل أبنائنا بمثابة تحدي السلطة العليا والتعدي على الهيبة الأبوية.
ننسى مسؤوليتنا الكبرى تجاه التربية العقلية للأبناء؛ وهي قضية فائقة الأهمية. كيف نرتقي بالقدرات العقلية عند أولادنا إن لم نثق بوجودها منذ البداية؟! يجب أن نفسح لهم بهامش لكي يعيشوا هذه التجربة. وهذا ما يعني حتمية حصول أخطاء ووقوع حماقات. هذه طبيعة التكامل العقلي عند البشر.. لا يمكن أن ينتقل الإنسان من فاقد للعقل تقريبًا إلى حالة التعقُّل التام دفعة واحدة. أثناء هذا الانتقال، من الطبيعي أن تظهر هذه الحماقات التي نسميها طيشًا.
وأحيانًا يكون السبب هو ضرورة حفظ الهيبة والمكانة. فمن المسؤوليات الكبرى في التربية ضرورة ترسيخ مبدأ تعظيم الآباء وتوقيرهم في نفوس الأبناء. الدرجة المطلوبة هنا هي ما عبّر عنه الإمام زين العابدين في دعائه لوالديه "واجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف". أي انتقاص من هذه الهيبة يضرب أساس تشكيل الشخصية الإيمانية. يجب أن يعيش الأبناء حالة الشكر العميق والتقدير الفائق لوجود الآباء والأمهات في حياتهم. هذا التعظيم له صورة ملفتة، تتمثل في ثقافتنا الدينية بمثل هذه المهابة الكبرى.
لكن حين لا يقدر أولادنا على مصارحتنا بحاجاتهم ومشاكلهم وهواجسهم ومخاوفهم وأخطائهم، فإنّهم يفقدون ركنًا مهمًّا يمكن أن يعينهم على حل كل هذه المشاكل والأخطاء ويمدهم بالمساعدة اللازمة لتجاوز عقبات الحياة.
إذا وقعنا بين مطرقة حفظ الهيبة وسندان عواقب المصارحة، يجب أن نجد حلًّا. لا ينبغي أن نضحي بأحدهما لحساب الآخر. وهذا ما يتطلب فنًّا خاصًّا. المصارحة التي تتضمن المكاشفة لا تعني بأي وجه رفع الحدود، بل تتطلب من الآباء ألّا يعتبروا أنّ الهيبة تعني السطوة والحزم والمعاقبة عند السيئة.
إذا كان الآباء يرون حفظ الهيبة في عدم السكوت عن أي خطأ فقد خلطوا أمورًا. جزءٌ كبير من الهيبة يتمثل في العفو والتجاوز والغض. "من أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم"، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام. جزءٌ كبير من عظمة الشخصية يتمثل في هذا المستوى من الغض عن أخطاء أبنائنا إلى درجة قد ينسون معها أنّهم صارحونا بها منذ البداية.
ما دام أبناؤنا يرون فينا المحل الذي يلجؤون إليه لتعديل سلوكهم وتطوير شخصيتهم وحل مشاكلهم، فهذا يعني أنّ الأساس الأول للمصارحة قد انعقد. ما علينا سوى أن نتصل بمنبع الحكمة ونوصلهم به.
كيف نعين أولادنا على برّنا؟.. ثلاثة مبادئ أساسية لعلاقة قويمة
قَالَ الإمام الصَّادِقُ (ع):"بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ حُسْنِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا عِبَادَةَ أَسْرَعُ بُلُوغاً لِصَاحِبِهَا إِلَى رِضَاءِ اللَّهِ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْمُؤْمِنَيْنِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ مُشْتَقٌّ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَا عَلَى مِنْهَاجِ الدِّينِ وَالسُّنَّةِ".
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...