توتة توتة.. ما خلصت الحدّوتة
الكاتبة: أمل عبد الله
مؤلفة: توتة بلا توت، اسمي صدوء، سيدة زيتونة تصبح أصيلة
أكتب هذا النص وأنا أنظر من نافذة غرفة الجلوس ـ ربما للمرّة الأخيرة ـ إلى شجرة التوت العزيزة. فقبل عشر سنوات كانت لي حكاية مع شجرة التوت هذه. كنّا قد انتقلنا حديثًا إلى بيتنا الجديد في سهل الخيام والذي يُمكن القول إنّ عمر التوتة من عمره. أذكر أنّني رأيتها للمرة الأولى وهي بعد شتلة صغيرة زرعها جارنا عند مدخل قطعة الأرض التي اشتريناها، بعد أن أتت حرب تموز على بيتنا القديم في ساحة القرية. ومع ارتفاع البناء ارتفعت التوتة واستطال ظلّها. اكتشفنا مع الوقت أنّها توتة بلا توت، لكن ذلك لم ينتقص شيئا من جمال أغصانها الفتيّة وأوراقها الخضراء النضرة المبسوطة بسخاء. أصبحت جزءًا منعشًا من المشهد الجميل الذي صار يُطالعنا كل صباح، نحن الذين لم نعتد على العيش وسط الأشجار ولا على الاستيقاظ على صوت العصافير. ولأنّها لم تعُد مجرّد شجرة، أبت أن تستسلم لمحاولة اقتلاعها بحجّة توسعة الطريق المؤدية إلى بيتنا. لفّتْ أوراقها الجَزِعة حول قلبي واعتصرتْه، ثم همستْ لي: ساعديني!
وهذا ما فعلته. ساعدتُها بالطريقة التي أعرفها. كتبتُ عنها.
هكذا وُلدتْ قصةُ توتة بلا توت التي لم تكن مجرّد قصة شجرة تُطالب بحقّها البسيط والأصيل في البقاء في الأرض التي وُلدت وعاشت فيها. في القصة تتعرّف التوتة على الله الذي لطالما سمعت عنه لكنّها لم تكن قد كلّمته يومًا، وتختبر ذلك النوع الخاص من الإيمان الذي نعيشه وقت البلاء؛ الإيمان الذي يُبدّل كياننا وينقلنا من ضفّة الغفلة إلى ضفّة البصيرة، ومن الشكّ إلى اليقين. نعم، هذه التوتة الصغيرة عرَفتْ الله وعرّفتْني عليه أكثر.
وجدتْ هذه التجربة الإيمانية المتواضعة متّسعًا لها في قلوب الكثيرين ممّن قرأوا قصة «توتة بلا توت» وتعاطفوا معها. كنت عندما أحكي قصتها للأطفال أختم كلامي بأنّها قصة حقيقية، لأستمتع بنظرات الذهول التي تعلو وجوههم الصغيرة المضيئة.
بقيتْ التوتة. وعرفانًا منها بالجميل منحتني هديتين: قصة صدوء، عمود الكهرباء الصدئ التي صدرت بعنوان «اسمي صدوء»؛ وقصة ثانية هي قصة جارتها، شجرة الزيتون المعمِّرة. وبسبب الظروف، تأخرتْ طباعة قصة الزيتونة التي حملت اسم: السيدة زيتونة تُصبح أصيلة، إلى ما قبل أيام قليلة حيث تبلّغتُ الخبر السعيد باقتراب صدورها.
وتأمّلتُ في المفارقة: في الوقت الذي ستُبصر فيه آخر قصة من ثلاثية «قصص شجرتين وأرجوحة» النور، ستودّع التوتة العزيزة هذه الأرض بعد أن قرّر مالكها اقتلاع التوتة ليبني جدارًا، ويشقَّ طريقًا إلى البيت الذي ينوي بناءه.
هذه المرّة لم تلفَّ التوتة أوراقها الخضراء الغنيّة حول قلبي الذي اعتصره الألم لاحتمال فراقها. لم تطلب مني أن أُساعدها. استسلمتْ. وربما أنا التي استسلمتُ بعد عامين طويلين مثقَلين بمشاعر الفقد الموجع خسرنا فيهما سماحة السيّد، وقادة عرفنا بوجودهم من دون أن نعرف أسماءهم، وأحبّة عرفنا أسماءهم من دون أن نعرف حقيقتهم، وغرباء باتوا بشهادتهم أقرب الناس إلينا.
لكنّ قلبي المليء بالثقوب ظلّ يحاول العثور على مخرجٍ ما.
هل أتوسل لصاحب الأرض؟
هل أسأله إن كان لديه أطفال لأُهديه قصة توتة بلا توت فيقرأها لهم، عسى أن يرقّ قلبه ويعفو عنها؟
هل أقتطع غصنًا منها، أُعيد غرسه في أرضنا كي أُبقيها حيّة؟
هل ألتقط صورة تذكارية لي معها، أُعلقها في غرفتي لأُثبت أنّ التوتة حقيقةٌ وليست مجرّد حكاية نبتت في الخيال. والحقيقة لا تموت وإن غابت عن الأبصار.. كالمقاومة.
لكن ما علاقة المقاومة بالتوتة؟! وما العلاقة بين طريقٍ يريد رجلٌ مسالمٌ شقَّه في أرضه باقتلاع شجرة التوت، وبين المسار الشيطاني الذي يريد اقتلاع مقاومتنا وتمزيق بلادنا إربًا؟
هل قصة التوتة هي في أصلها قصة المقاومة، أم المقاومة هي جوهرنا الذي يصبغ رؤيتنا لكل شيء؟
عندما عدنا إلى الخيام بعد وقف إطلاق النار في شهر شباط، كان بيتنا أحد البيوت القليلة الناجية. أصلحنا الأضرار البسيطة التي لحقت به وعدنا لنسكن فيه. وكم سررتُ بالمفاجأة التي انتظرتني في حديقة البيت الخلفية!
«سبحان الله!»، قلتُ لأمي وأنا أُشير إلى شجرتَي توت ارتفعتا في قلب الحديقة، وعانقتا شجرتَي الزيتون المعمّرتين بأُلفة. من أين جاءتا؟ تساءلتُ. ولمَ الآن؟ وفي هذه الظروف؟ وبعد هذه الحرب المدمّرة التي طمعت بكلّ عرقٍ أخضر؟
اليوم عرفتُ الإجابة. فتوتَتي الغالية وإن لم تظلّ باديةً من نافذة غرفة جلوسي، فإنّها ستبقى هناك في الحديقة الخلفية، في الظلّ، فرعها في السماء، تشبك جذورها بجذور زيتوننا العريق، وتُعاهده على البقاء ما بقيتْ هذه الأرض.
وفي الختام، أقول لنفسي ولكل من أحبَّ التوتة ولا يزال، ولكل من آمن بها ولا يزال: «توتة توتة.. ما خلصت الحدّوتة».
-
توتة توتة.. ما خلصت الحدّوتة
الكاتب
أمل عبدالله
دخلت عالم الكتابة في العام 2008 ، بعد سنوات عديدة أمضتها في التعليم والعمل المخبري. أول أعمالها رواية "برج الخديعة" التي تلتها رواية "يوم سقطت طهران". في مجال أدب الطفل، للكاتبة مجموعة متنوعة من القصص صدر منها قصتي "توتة بلا توت" و "الأسبوع الذي أصبحت فيه متنمّرًا". شاهد اللقاء مع الكاتبة حول ...











