
ما هي المهنة الأكثر أهمّيّة في زماننا؟
ماذا تعرف عن دور المفكّر الحقيقيّ؟
السيد عباس نورالدين
منذ عدّة عقود شاع استعمال مصطلح "المفكّر" للدلالة على نوعٍ معيّن من المهن المرتبطة بالعلم والمعرفة. وأبرز ما يدلّ عليه هذا المصطلح هو أنّ المفكّر شخصٌ مبدع ومنتج للأفكار. إنّه ذاك الذي يطلعنا على أفكار لم نكن نسمع منها شيئًا. وبمعرفة الفارق بين هذه المهنة وبين سائر الاختصاصات العلميّة، يمكننا أن نفهم طبيعتها ونتعرّف إلى أهمّيتها أكثر فأكثر.
هناك، مثلًا، من يدرس مجالًا علميًّا محدّدًا لأجل أن يشتغل به ويطبّقه، كالطبيب أو المهندس أو حتى معلّم المدرسة. وهناك من يعمل على فهم واستيعاب تراثٍ علميّ محدّد لتوثيقه أو شرحه، فيتميّز بسعة الإحاطة به؛ وهذا هو العالم الباحث الذي يمكن أن يبدع نظريّةٍ ما أو يكمّل ما بدأه غيره في مجاله. أمّا المفكّر، فهو وإن انطلق من تراثٍ علميّ محدّد، إلّا أنّ أكبر همّه هو أن يطبّقه على واقعه وزمانه، ليخرج من وراء هذا التطبيق بأفكارٍ قد تكون حلًّا لمشكلة أو أطروحةٍ لعمل أو استشرافًا لمستقبل.
فالنمط الأوّل لا همّ له وراء العمل والتّطبيق، والنمط الثاني لا همّ له وراء النصوص والتراث العلميّ والمعارف المطروحة فيه، أمّا المفكّر فهو الذي يهتم بأوضاع وأحوال المجتمع والواقع الذي يعيش فيه. إنّه ذاك الإنسان الذي يستطيع أن يساهم في تفسير الظواهر التي تنشأ في أي مجتمع نتيجة تفاعل أبنائه مع الأحداث والمتغيّرات والتحوّلات المختلفة؛ أضف إلى ذلك طبعًا: قدرته على تحديد الأسباب والحلول والنتائج.
المفكّر قادر على استيعاب ظاهرة الفضاء المجازي، الذي تولّد من تكنولوجيا الانترنت، فيحلّلها ويستوعب أسبابها، ويساهم في الكشف عن آثارها ونتائجها على جميع أصعدة الحياة وشؤونها، وقد يتعدّى ذلك ليقدّم رؤية ما أو مجموعة من الأفكار المفيدة للتعامل معها. هذا، بخلاف الباحث والعالم في هذا المجال، الذي لا يخرج عن المسار المحدّد ضمن إطاره الخاص. فالمفكّر أوسع نظرةً وأعمق بصيرةً؛ وكلّما استطاع أن ينهل من التراث والأدبيّات المرتبطة بأي ظاهرة، ويحيط بتاريخها ومسارها الزمنيّ وتحوّلاتها، كان أقدر على استيعابها والإحاطة بمختلف أبعادها.
المفكّر هو الذي يقدر على فهم ما يجري على مستوى الحياة الإنسانية، من ناحية عمقها وتحوّلاتها والمؤثّرات الحاليّة في طبيعتها وآفاقها. أمّا العالم البيولوجيّ فهو الذي يفسّر حياة الأجساد وما يجري فيها، بمعزل عن المؤثّرات الخارجيّة الاجتماعيّة والنفسيّة والثقافيّة والبيئيّة التي ترتبط بها، لهذا من الصعب أن يقدر على استشراف مستقبلها. فالمفكّر يدرس هذه الظاهرة انطلاقًا من فلسفتها وبملاحظة العوامل المؤثّرة فيها، ويشرف عليها، من دون أن يكون أسيرًا لها، لهذا يمكن له استيعاب تحوّلاتها الواقعيّة.
المفكّر هو الذي يقرأ ما وراء الأرقام والإحصاءات وحتّى الدراسات، التي تدور حول شركة التوزيع العالمية (أمازون)، ويكشف لنا عن التأثيرات الهائلة التي ستتركها هذه الشركة على صعيد الاقتصاد العالميّ وكيفيّة القيام بالأعمال.
المفكّر يحدّثنا عن أسباب تحوّل الغناء إلى ظاهرة نسائيّة بامتياز، وكيف سيكون ردّ الرجال على هذه التحوّلات في المستقبل القريب.
المفكّر هو الذي يفهم ما يجري في عالم كرة القدم، حين يستوعب كلّ هذه الصناعة الكبيرة التي يبلغ رصيدها عدّة مئات من مليارات الدولارات، ويدرك كيف تساهم هذه اللعبة في تشكيل العقول والأدمغة عند شرائح واسعة من الشباب، ويلفت نظرنا إلى تأثيرها على الاقتصادات الدولية.
وباختصار، إنّنا نتطلّع إلى هذا النوع من الأشخاص، لكي يكشفوا لنا عن العديد من الظواهر التي نجهل وجودها، أو لا ندرك حجم تأثيرها على حياتنا.
ولكن لكي يكون المفكّر عنصرًا إيجابيًّا فاعلًا في تقدّم مجتمعه، يجب أن يحوز على الكفاءات التالية:
- معرفة الحقائق الكبرى في الوجود: وأوّلها معرفة صفات المدبّر الأوحد للعالم (ربّ العالمين) ومعرفة أهم أفعاله وآثاره التي يعبّر عنها بالآيات الكبرى. فليست الظواهر الجزئيّة سوى تجلٍّ لتلك الصفات والخصائص المميّزة لأفعال الله تعالى. كما أنّ الكثير من الظواهر التي تلفت نظرنا اليوم ليست سوى رد فعل وانعكاس لتلك الظواهر الإلهيّة الكبرى.
إنّ تشكّل الحضارة الغربيّة كما نعرفها اليوم لم يكن سوى نتاج سلسلة من ردّات الفعل تجاه دعوة الإسلام التي ظهرت قبل أربعة عشر قرنًا. وما لم نمسك بهذا التسلسل منذ بدايته، يصعب أن نفهم الكثير من ثمار هذا المسار الحضاريّ ونتاجاته.. ربما يستطيع المفكّر أن يدلّنا على أنّ ظاهرة الألعاب العالميّة ليست سوى تدبيرٍ لتدبيرٍ نشأ من تدبيرٍ ما لمواجهة وهج الإسلام!!
حين يعجز المفكّر عن الإمساك بأصول ومبادئ العلل والأسباب التي تقف وراء أي ظاهرة يسعى لدراستها وتحليلها، فلن يتمكّن من تقديم رؤية صحيحة وشاملة حولها. - سعة الاطّلاع: أو الإحاطة بمجموع العناصر التي تشكّل أي ظاهرة إنسانية؛ وإلا كان تحليله ناقصًا ومجتزأً. وهكذا، بدل أن نفهم تلك الظاهرة بعمق، فقد تتشكّل لدينا مفاهيم وتصوّرات خاطئة حولها. بَيد أنّ هذا لا يعني الجمود وعدم تقديم التفسيرات والأفكار حول الظواهر المختلفة بحجّة عدم الإحاطة، وإنّما يجب اجتناب داء الجهل المركّب والادّعائية، فنعتبر أفكارنا وتحليلاتنا نوع مساهمة في عملية تكوين الرؤية الشاملة. وبدل أن يبتّ المفكّر في الحكم ويصدر القرار النهائيّ، فإنّه يعبّر عن فهم القضيّة من بعض الزوايا التي بدت له. وبذلك تتراكم الآراء والأفكار حتى تحيط بالظاهرة المنشودة.
- معرفة الزمان ومقتضياته: وذلك لأنّ جميع الظواهر الإنسانية تسلك طريق التحوّل الزمانيّ وتتأثّر بمقتضياته الاجتماعيّة والسياسيّة والنفسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة والتكنولوجيّة. ومهمّة المفكّر هنا هو أن يستوعب هذا المسار الزمنيّ منذ النشوء وحتّى الحاضر، ليقدر على استشراف المستقبل.
إنّ معرفة الزمان تتطلّب استيعاب مسار الظواهر الكبرى باعتبار أنّ جميع الظواهر الأخرى ستكون بمنزلة مواليدها ونتاجاتها. وكأنّ هناك أزمنة كبرى وأزمنة صغرى لا بدّ من تفكيكها وفهم العلائق بينها. وبهذه المعرفة يمكن للمفكّر أن يطبّق ما يفهمه من أصول ومبادئ وفلسفات، على الواقع الذي نعيش فيه، فيقدّم لنا أفضل تصوير للمشاكل الكبرى والتحوّلات الأساسيّة والمستقبل الآتي، فنتعرّف منه إلى مسؤوليّاتنا المرتبطة بالتعامل معها، بدل أن نكون مجرّد بيادق يحرّكها الآخرون من دون أن ندري ما يُفعل بنا.
المفكّرون الحقيقيّون هم صنّاع البصيرة، الذين لا غنى عنهم في أيّ مجتمعٍ يسعى ليكون حرًّا مستقلًّا عزيزًا مزدهرًا؛ وأضدادهم الذين يحبطون أعمالهم هم أولئك المتعلّمون من حملة الشهادات، الذين يجيدون التقليد والببّغائيّة وقد سيطروا على مقاليد الأمور، فيعملون على الحفاظ على الأوضاع كما هي من أجل الحفاظ على مصالحهم ومواقعهم. ولهذا، يتّهم المحافظون المفكّرين بالبدعة إن كانوا من المسلمين، أو بالهرطقة والجنون إن كانوا في مجتمعاتٍ أخرى. لكن يجب أن نعلم أنّ الغلبة في النهاية تكون للفكر الحرّ الحريص البصير، الذي يزيد المجتمع وعيًا وفهمًا ومعرفة بحقائق الأشياء؛ وما على المفكّر إلّا أن يتقن أفضل أساليب البيان والتعبير ويسعى لاستخدام أفضل وسائط التواصل والإيصال.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...