
كيف نتفوّق في السينما؟
إذا كنّا نريد العزّة لأمتنا فلا مناص من نهضة أدبية متفوقة
السيد عبّاس نورالدين
إذا كنّا ندرك حجم تأثير الإعلام والسينما والدراما، وأردنا الخلاص من براثن هذه القوّة الغربيّة المشؤومة، فلا مناص من العمل على بناء صرحٍ إعلاميّ إسلاميّ أصيل، ينبع من ثقافتنا وديننا ورؤيتنا الكونيّة.
ولأجل تحقيق هذا التفوّق المنسجم مع هويّتنا نحتاج إلى أمرين أساسيّين:
الأوّل: القدرة الفنيّة التقنيّة. وهي متوفّرة إلى حدٍّ مقبول وفي حال تطوّرٍ مستمر.
والثاني: هو القدرة الأدبيّة على التّعبير عن ثقافتنا بالأساليب والفنون الجميلة؛ وهنا مكمن التّحدّي الأكبر.
إنّ آداب كل شعب تعكس نوعيّة ومستوى تفاعله مع ثقافته وقيمه ومقدّساته. ويمكن التعرّف إلى درجة حضور القيم الثقافيّة الخاصّة في حياة أي شعب من خلال النّظر في أدبيّاته. هذا الانعكاس الذي ينمو ويتجلّى خصوصًا في الامتحانات الكبرى والتحدّيات المصيريّة.
بَيد أنّ لهذه الآداب دورًا إضافيًّا يتجلّى في رسالتها العالميّة وتوجّهها إلى الشّعوب الأخرى. وإنّ قوّة كل ثقافة إنّما تبرز في خطابها العالميّ والإنسانيّ. وحين تفقد الثّقافة قدرة الوصول والاتّصال فلن تقدر على الثّبات بوجه رياح الثقافات الأخرى.
إنّ للفنون الأدبيّة المختلفة هويّة عالميّة ولغة كونيّة وإن اتّخذت صبغة قوميّة أو ثقافيّة خاصّة؛ لكن هناك فنًّا خاصًّا أثبت قدرته على عبور الحدود والأقاليم بصورة متميّزة، وهو فنّ القصّة التي ركبت موجة الشّاشة (بمختلف أحجامها وتقنيّاتها). ولا شك بأنّ ما يخلقه هذا الفنّ من مجالات تفاعليّة قد فاق أي فن آخر.
وللفن الدراميّ والقصصيّ الدّور الأكبر في التفوّق الإعلامي الذي أصبح عنصرًا محوريًّا في تشكيل الرأي العام وبناء الثّقافات. ولهذا، ما لم يتشكّل أدبٌ إسلاميّ قصصيّ متميّز ومتفوّق، فلا نتوقّع الثبات والانتصار في معركة الدّفاع الثقافيّ، مهما حصلنا على تقنيّات الإعلام ووسائله العصريّة.
إنّ الثقافة الإسلامية تتضمّن الكثير من عناصر العلوّ والجاذبيّة. فهي ثقافة متفوّقة لأنّها قبل أي شيء جامعة بين عنصري العقل والفطرة دون تقييد لأيٍّ منهما. فالثقافة الإسلامية الأصيلة شديدة الوغول في العقل والمنطق والواقعيّة، في الوقت الذي تفيض بالروحانيّة العميقة.
وفي ظلّ هذه الثّقافة لا نتوقّع سوى أجمل التّجارب الإنسانيّة وأكثرها سطوعًا. لكن السّؤال الذي يبرز هنا هو أنّه لماذا لا يزال العالم لا يعرف عن هذه التّجارب الرائعة إلا القليل؟ ولماذا لا يقدر مخرجونا وصنّاع أفلامنا على تقديم هذه التّجارب الجميلة لجمهورنا وجماهير العالم من حولنا؟!
وهنا نجد أنفسنا أمام إشكاليّة تحويل ثقافتنا إلى أدبٍ وفنّ، ونقف عند تحدّي إظهار تلك التّجارب الراقية في قوالب القصّة والرّواية. وإذا أراد أصحاب القرار والإمكانات في مجتمعنا أن يدركوا حجم هذه القضيّة فعليهم أن يعيدوا النّظر مرّةً أخرى في الدور المحوريّ للقصّة والرّواية على صعيد معركة المصير والانتصار في الحروب النّاعمة. هذه الحروب المفروضة التي لا تجد سلاحًا أقوى وأحدّ من سلاح الدراما والإعلام.
وبدورنا نقدّم هنا بعض النّصائح المفيدة المرتبطة بتطوير هذا الفن، عسى أن تشكّل أرضيّة مناسبة لحوارٍ أعمق بشأن هذه القضيّة الحسّاسة.
النصيحة الأولى: ترتبط بالبعد الشرعيّ والفتوائيّ الذي يُعنى بكل قضايا الناس وابتلاءاتهم. وصحيح أنّه لا يوجد تحريم أو حظر تشريعيّ على القصّة والرّواية في الفقه الإسلاميّ عمومًا، إلّا أنّ هذا الفن لم يأخذ نصيبه من اهتمام فقهاء الإسلام بما يتناسب مع حجم التحدّي والمسؤولية، شأنه شأن العديد من الأمور الاجتماعيّة التي صارت ضحيّة غلبة الفقه الفرديّ.
فلا بد من إعادة النّظر في أهميّة ودور وتأثير هذا الفنّ في بناء الإنسان وفي المواجهة الحضاريّة الكبرى، وتقديم التّوجيهات الشرعيّة، التي تعمّق روح المسؤوليّة الدينيّة تجاهه. وما دام الخطاب الدينيّ مغفلًا لهذا الفنّ إلّا ما ندر، فلا نتوقّع انبعاث قصّة إسلاميّة بحجم التّحدّي الموجود.
ولا ننسى بالطّبع التطوّر النوعيّ المشهود في خطاب وليّ أمر المسلمين الذي يحث على استخدام هذا الفنّ ويمجّده ويدعو إلى تشكيله وتوسعته. وإذا خرج هذا الخطاب في وعينا كمكلّفين ومسؤولين من دائرة الاستحسان ودخل في دائرة المسؤولية والالتزام، فالمرجوّ أن نشهد تحوّلًا نوعيًّا في اهتمام أصحاب القرار وأهل القلم وأبناء التّجارب المعنويّة بعالم القصّة والدراما.
النصيحة الثانية: ترتبط بضرورة العمل على إخراج وتظهير ثقافتنا الدينيّة في قوالب فنّيّة جماليّة. وبما أنّ الجهد الأكبر لأهل التّحقيق العلميّ على مدى قرونٍ متمادية قد انصبّ على مجادلة المخالفين واستنباط الأحكام ومعالجة الآراء وتثبيت الأصول، فقد أدّى ذلك إلى إهمال الرّوح الجماليّة والأساليب الفنّيّة؛ فظهر الإسلام في هذا التّراث شبه خالٍ من عناصر الجاذبيّة التي ترتبط بمعنويّات الإنسان ومشاعره العميقة. في حين أنّ من يتأمّل بمصادر الإسلام ونصوصه الأساسيّة يدرك تمامًا أنّنا نقف على كنوز فنّيّة وجماليّة ترتبط بأعمق المشاعر الإنسانيّة والرّوحيّة.
ولأجل ذلك يجب أن يخوض أهل العلم والتّحقيق هذه المرّة تجربة من نوعٍ آخر؛ تجربةً لا علاقة لها بالنّزاعات المذهبيّة والاستدلالات العقليّة (وإن لم تخالفها). فهي تجربة مواجهة جماليّات الباطل وفنونه "الجميلة". وينبغي اعتبار هذه المواجهة أولويّة مطلقة وسط الاهتمامات السّائدة والعقليّة القديمة. فبسبب غياب هذه الأولويّة وجدنا أنفسنا ننساق نحو تحدٍّ اعتدنا على مواجهته، وذلك حين استفحل وضع التكفيريّين بسيطرتهم على مناطق صحراويّة شاسعة من العراق وسوريا. كثيرون ظنّوا أنّ هؤلاء هم الخطر الأكبر على الإسلام لأنّهم نظروا إلى سعة الأرض المحتلّة عبر الخرائط الجغرافية وإلى سعة الانتشار عبر قنوات اليوتيوب الفرضيّة! ولو تأمّلنا قليلًا لعلمنا أنّ هذا التيّار التكفيريّ التّابع للغرب لا يمتلك أدنى مقوّمات البقاء، فكيف بكونه تحدّيًّا واقعيًّا للإسلام والحضارة الإسلاميّة المجيدة!
إنّ أي قوّة في العالم إذا أرادت البقاء والتوسّع فلا بد أن تتوسّل بالفنّ والجمال. هكذا هي سنّة الله في خلقه، الذين فطرهم على حبّ الجمال والانجذاب إليه. حتى أنّ الجماعات التكفيريّة نفسها تراجعت في المدّة الأخيرة عن التّباهي في عرض الجرائم البشعة عبر وسائل الإعلام!
سيبقى التحدّي الأكبر بالنّسبة لأصحاب كل ثقافة في ساحة المنافسة الجماليّة والبقاء للأجمل.
حسنًا، إنّ مكتبتنا الإسلاميّة الأصيلة تحتوي جواهر نفيسة من العرفان النّظريّ المدعّم بالاستدلالات العقليّة والخطابات الفلسفيّة. ولكن أين هي القصّة والرّواية من هذا التراث؟ ولماذا استحوذت رواية عرفانيّة تركيّة على مثل هذا الاهتمام العالميّ والإقبال المحلّيّ مع ما عليها من ملاحظات؟ أليس ذلك بسبب ندرة الرّوايات العرفانيّة والقصص النابعة من العرفان العميق؟
ولكي لا ننتظر كثيرًا، علينا أن نعلم بأنّ الغرب الرّوحانيّ أو روحانيّة الغرب وافدة علينا شئنا أم أبينا. وبإمكاناتها الفنّيّة المميّزة فهي تحمل معها كل أشكال الاستفزاز الثقافيّ؛ فربما تستثير مثل هذه الهجمات الجديدة همم أصحاب الأصالة الرّوحيّة العرفانيّة الإسلاميّة.
ولكن، لماذا نكون في وضعيّة الانفعال والدّفاع ونحن نمتلك كل هذه القدرات والإمكانات الكامنة؟ أما آن الأوان لنقدّم للعالم المتعطّش أجمل وأروع ثقافة روحيّة؟
النصيحة الثالثة: ترتبط بإيجاد المجال الحيويّ لنهضة الرّواية والأدب القصصيّ. وهي مسؤوليّة تقع بالدّرجة الأولى على أصحاب القرار والإمكانات في مجتمعنا المسلم. فلا يوجد حاضنٌ أبويّ لهذا الأدب حتّى الآن. وكل الأعمال المنجزة تنطلق من مبادرات فرديّة وسط نظامٍ لا يسمح بانتشارها وتكاملها.
فلكي تنتشر الرّواية وتتكامل القصّة الإسلاميّة يجب خلق بيئات مناسبة تزدهر فيها الأعمال النّقديّة والاستفادات الإعلاميّة والتّعليميّة ويتم إجلال وتعظيم أصحاب الأعمال المميّزة والإبداعيّة بما يتناسب مع حجم التّحدّي. فإذا استطعنا أن نظهر هذا الفن كأحد أعظم مظاهر المقاومة والخدمة المجتمعيّة ونشر القيم الدينيّة، فسوف تتوجّه النّفوس إليه وتتفاعل معه مما يثمر اندفاعًا كبيرًا وتكاملًا جوهريًّا.
رغم أهميّة القلم ودوره في صناعة الشّهداء، الذين هم المرتبة الأعلى في البذل والعطاء، فإنّ أصحابه وأهله لم يتلقّوا الحد الأدنى من العناية والاهتمام. وسوف ينعكس هذا التقصير بدوره على المستوى الأدبيّ، ولن يسمح بتكامل هذا الفن وتطوّره.
إنّ المجال الحيويّ لمسيرة الأدب القصصيّ يتمثّل في تعظيم القصّة وأهلها جنبًا إلى جنب حضور النّقد البنّاء حتّى ينعكس ذلك في صورة أنواع الإنتاج التلفزيونيّ والسينمائيّ وغيره.
النصيحة الرابعة: تأسيس معاهد ومراكز لدراسة وتدريس أدب القصّة والرّواية وتطوير مهارات الكتابة. وهي البيئة العلميّة اللازمة لنشوء النقد الهادف والملتزم بدل أن يكون شأنًا صحافيًّا مبتذلًا. وقد أثبتت مثل هذه المعاهد في بعض الدّول الحديثة قدرة مميّزة على تخريج أدباء وكتّاب من الطّراز الأوّل حين حوّلت هذا الفن إلى مواد تعليميّة وتحليليّة وتطبيقيّة متطوّرة. ولم يعد هذا الفن حكرًا على الموهوبين، بل أصبح علمًا قابلًا للتّعليم، وتنزّلت مواده وأصوله إلى التّعليم المدرسيّ، فارتقت بذلك مستويات الكتابة وتوسّعت آفاقها بصورةٍ ملحوظة.

روح المجتمع
كتابٌ يُعدّ موسوعة شاملة ومرجعًا مهمًّا جدًّا يمتاز بالعمق والأصالة لكلّ من يحمل همّ تغيير المجتمع والسير به قدمًا نحو التكامل، يحدد للقارئ الأطر والأهداف والسياسات والمسؤوليات والأولويّات والغايات المرحليّة والنهائيّة في كلّ مجال من المجالات التي يمكن أن تشكّل عنصرًا فعّالًا في حركة التغيير، على ضوء كلمات قائد الثورة الإسلاميّة المعظّم روح المجتمع الكاتب: الإمام الخامنئي/ السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 19*25غلاف كرتوني: 932 صفحةالطبعة الأولى، 2017م ISBN: 978-614-474-020-0 سعر النسخة الملوّنة: 100$سعر النسخة (أبيض وأسود): 34$ للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراءه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:

صناعة عالم الدين في المدرسة
بإمكان المدرسة أن تحقّق المعاجز ضمن الإمكانات المتاحةيدرك المتخصّصون في مجال العلوم الدينية أنّ تحصيل مستويات عالية من المعرفة والتخصّص والمهارات التعليمية أمرٌ ممكنٌ بسنواتٍ قليلة، وحتى دون شرط إنهاء المرحلة الثانوية. وفي الوقت نفسه لا يشك خبير متضلّع بما في هذه المعارف من تأثيرٍ عميق على مستوى صقل الشخصية وتقويتها وتوازنها؛ الأمر الذي نفتقد إليه كثيرًا في مدارس اليوم حيث العجز والانفكاك بين العلوم والتربية.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...