
ما هي السينما الإسلاميّة؟
السيّد عبّاس نورالدين
إذا أردنا الحديث عن سينما تكون وسيلةً لترسيخ الالتزام بالقيم السّامية واكتساب المعارف العميقة وتوسعة البصيرة والوعي، فلا بدّ من الحديث عن سينما تنافس هوليوود أو تكون عاملًا أساسيًّا في إحباط باطلها وإزهاقه.
نعترف أوّلًا بأنّ السّينما الأمريكيّة تحتوي على مستوًى مهم من الوعي والقيم، لكن لا يمكن أن ننظر إلى حصيلتها الكلّيّة ونتاجها العام نظرة إيجابيّة. وبعبارةٍ أخرى، إنّ شر هذه السينما هو أكبر من خيرها بكثير. لكن فهم المسار التّاريخيّ الذي سلكته هذه السّينما منذ نشأتها الأولى، قد يعطينا فكرة مهمّة حول كيفيّة بلوغ هذه المنافسة والتّحدّي.
قد يظن البعض أنّ المسألة لا تعدو أن تكون رأسمالًا ضخمًا وتقنيّات عالية؛ أمّا ما تبقّى فيمكن توفيره بسهولة! فما أكثر كتّاب السّيناريو والمخرجين في بلادنا! وفي أصعب الحالات قد يكون الحل باستئجار مُخرج عالميّ يستطيع أن يصنع لنا فيلمًا هوليووديًّا!
إن كانت النّظرة إلى السّينما بهذا المستوى من البساطة عند القيّمين وأصحاب القرار في المجتمع، سنفهم حينها لماذا لم تنهض السّينما الإسلاميّة وتتشكّل إلى حدّ اليوم.
فمنذ اللحظات الأولى التي قدّمت تقنيّات التّصوير المتحرّك فكرة السّينما لصنّاع التّرفيه في الغرب، كانت الثّقافة العامّة والأدبيّات الغربيّة المتوافرة على مدى قرون جاهزة للمشاركة بفعاليّة فيها.
صحيح أنّ النّظرة الأولى للسّينما كانت نظرة ترفيهيّة بحتة، ولا شك بأنّ روّاد السّينما الأوائل لم يكونوا يفكّرون بدورها التثقيفيّ والقيميّ والسياسيّ الخطير، لكن حجم ومستوى الأعمال القصصيّة والرّوائيّة، الذي كان سائدًا في الأوساط، سرعان ما فرض نفسه على هذه الصّناعة النّاشئة، مثلما فعل في العديد من الصّناعات الأخرى.
لقد طوى الغرب عقودًا عديدة وهو يعيش في أجواء الرّواية والقصّة، ويتناولها كأحد أهم مجالات الفكر والتّعبير؛ وذلك للأسف، بخلاف مدارسنا الدينيّة، التي كانت تنظر إليها نظرة مشوبة بالتحريم والاستخفاف. ويُنقل عن ابن سينا اعتزازه بالامتناع عن قراءة القصص لأجل الحفاظ على قدراته العقليّة. ونسمع كثيرًا نهي الأساتذة الكبار عن قراءة الرّوايات وتضييع الوقت بمطالعتها.
في الوقت الذي كان الغرب قد أدرك مدى قوّة الرّواية والقصّة في التعبير عن أفكاره ورؤيته للوجود وفلسفته للحياة، وُلدت تقنيّات التّصوير المتحرّك؛ فاجتمعت قوّتان عظيمتان لم يشهد لهما التّاريخ نظيرًا، لتُنتجا أشدّ وسائل التّعبير تأثيرًا، وهي السّينما. واستمرّت هذه القوّة بالتّعاظم مع استمرار الإنفاق الكبير على تطوير تقنيّاتها؛ ونشأت صناعة سينمائيّة هائلة بلغت شأوًا عظيمًا لم تبلغه أي صناعة أخرى في العالم؛ وتشكّلت على أثرها تجمّعات ضخمة ـ كانت هوليوود أقواها وأوسعها ـ وصارت مصدرًا أساسيًّا لقوّة الاقتصاد الأمريكيّ ونفوذه.
وفي الوقت نفسه، شجّعت هذه الصّناعة حركة القصّة والرواية رافعةً إيّاها لتصل إلى مصاف الإبداع الفريد.. فإلى جانب كل فيلم يُنتَج في هوليوود، هناك عشر روايات تُكتب بالحدّ الأدنى. ومع تفاقم المنافسة في عالم القصّة ازداد الاهتمام العلميّ والأدبيّ، وتضافرت الجهود وأصبح التفرّغ للكتابة العميقة والاحترافيّة سِمة بارزة في مجتمع السّينما؛ فتشكّل أدبٌ روائيّ تصعُب منافسته إلى حدٍّ كبير.
إنّها البيئة المتكاملة للسّينما: التطوير التقنيّ، التّعليم والبحث الأكّاديميّ، الاحتراف والتفرّغ، المطالعة وتوافر المعلومات، الإدارة والصّناعة المتطوّرة، الدّعم الحكوميّ،... فاجتمعت عشرات آلاف الجهود المؤمنة بفائدة السّينما ومنفعتها على مستوى صناعة الرأي العام والمردود الماليّ الكبير والشّأنيّة الثّقافيّة والاستعلاء الحضاريّ والغزو الفكريّ والمعنويّ و...
لكن كل هذه البيئة كان ينقصها أمرٌ أساسيّ للنّجاح الحقيقيّ وهو: الاستمداد من الحقّ!
ففي نظرة معمّقة إلى منشأ السّينما وتطوّرها نجد أنّ عنصر الكشف عن الحقيقة لم يكن أمرًا محوريًّا فيها. وحين يغيب الحقّ عن أي ساحة تفقد جماليّتها وجاذبيّتها المطلوبة؛ فتسعى للتعويض عن هذا النّقص الفادح من خلال المؤثّرات السّمعيّة والبصريّة والتّكثير من القضايا الصّادمة (كما في أفلام الرّعب أو الخيال المحض أو الإباحيّة أو الأكشن..). ولا شك بأنّ مثل هذه المؤثّرات ستكون عنصرًا جاذبًا، لكن تأثيرها سيكون مؤقّتًا وسريع الزّوال. ممّا يحتّم على هذه الصّناعة مرّة أخرى أن تُكثر من إنتاجها؛ ممّا سيكون على حساب النّوعيّة. وهنا ستدخل في دوّامة السّقوط والخفوت.
كل هذا الباطل (الذي في أغلبه انقطاع عن الحقّ) زاهق وزائل! لكنّه ينتظر قذف الحقّ عليه. فالباطل في الحياة البشريّة لا يزول، لأنّ النّفوس يمكن أن تكون مستودعه؛ فلا بدّ من أن نقذف الحقّ عليه لكي يدمغه.
ولا يمكن أن تكون عملية القذف هذه إلّا بواسطة سينما بديلة تقوم على الحقّ والحقيقة في جميع شؤون الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والمعنويّة والأمنيّة وغيرها؛ بشرط أن نتمكّن من صياغة الحقّ في قالبٍ جماليّ تكون الرّواية والقصّة عنوانه الأبرز.
ولو تحدّثت مع أهم القيّمين على صناعة السّينما في بلادنا لوجدتهم يصرخون من نقص هذه الأدبيّات وضعف مستواها.
لقد قدّم لنا الغرب وسيلة خطيرة، ولم يعد بالإمكان تفاديها، لكن أليس بالإمكان العمل على أسلمتها؟
هذا ما نتوقّعه من قادة الأمّة الحقيقيّين الذين يدركون جيّدًا قصّة السّينما وسينما القصّة وهم مستعدّون لدعم وتوجيه وإنشاء هذه الصّناعة البديلة بشرط البدء من النقطة الأساسيّة. وفي غير هذه الحالة فلا نتوقّع نهوضًا لأي سينما واقعيّة.

كيف نتفوّق على الغرب؟
كل من يمتلك الحدّ الأدنى من الوعي والاطّلاع، يدرك مدى هيمنة الغرب على المجتمعات المسلمة ومدى نفوذه فيها وإيغاله في مكوّناتها الاجتماعيّة والنفسيّة والفكريّة، ويلاحظ بوضوح عمله المعلن على إخضاعها واستعبادها.

أعظم طريقة لنشر القيم
يحفل تاريخنا الإسلاميّ بشخصيّات عظيمة تجسد تعاليم الإسلام وقيمه وأطروحته الكاملة. وحين نتأمّل في أفضل الطّرق والبرامج المؤثّرة في مجال نشر هذه القيم وترسيخها وتحقيق تلك الأهداف والوصول إليها، لن نجد ما هو أفضل من الشخصيّات المجسّدة لها.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...