
بالإنسانية ننجو ونفوز
السيّد عبّاس نورالدين
خلق الله الإنسان ليكون بإنسانيّته مظهرًا لعظمته وقدرته. فكانت الصّورة الإنسانيّة أجمل صورة خلقها الله؛ فمن حفظها واحترمها وصانها وأكرمها أكرمه الله ورفعه.
وما دامت الصورة الإنسانية محفوظة مكرّمة في الحياة البشرية، فهذا يعني بقاء الفرصة لنيل الرحمة. ولو عبث الناس بهذه الصورة وغيّروها، فلن يبقى لوجودهم على هذه الأرض من معنًى. ولهذا، فإنّ إبليس اللعين عدوّ الإنسان يسعى دومًا لتغيير هذه الخلقة بشتّى السُّبل، وفي جميع شؤونها الظاهرة والباطنة، الجسمانية والمعنوية.
أن تكون إنسانًا بحسب الظاهر يعني أن تكون مستقيم الخِلقة نظيفًا تفوح منك رائحة طيّبة يأنس بك أبناء جنسك.
وأن تكون إنسانًا بحسب الظاهر يعني أن تكون اجتماعيًّا عطوفًا عاقلًا مفكّرًا، تدهشك عجائب الخلقة وتسعى لاكتشاف أسرار الوجود وتحترم الإنسان و..
وفي ظلّ هذه الإنسانية السويّة يمكن بناء صرح المعنويّات والكمالات الرفيعة التي تصل إلى مقامات الربوبيّة والتخلّق بالأخلاق الإلهيّة، كما جاء في الحديث المشهور: "تخلقوا بأخلاق الله".[1] فهي القاعدة الأولى والأساسيّة لعمارة الكمالات، وبفضلها استحقّ الإنسان مقام خلافة الله. فلا شيء يمكن أن يحكي عن عظمة الإله مثل هذا الإنسان.
للأسف، لقد أُهملت قضيّة الإنسانيّة في الأبحاث الدينيّة والفكريّة عند المسلمين على مرّ العصور. ولهذا أسباب عدّة، إلّا أنّ السبب العُمدة هو طغيان الأبحاث الكلاميّة التي تدور حول الإيمان والكفر والتي كان توظيفها في مجال الصّراعات والنّزاعات بين المذاهب والفرق. فحدّة النّزاعات وصلت إلى حيث أضحى تكفير الآخر من أجل إسقاطه ومنع أي نوع من التقرّب والاستفادة منه، الشغل الشاغل لمثيريها.
لقد رسمت الصّراعات الفكريّة بين المسلمين الخطوط العامّة لثقافتهم ولنظرتهم إلى كل شيء. ورغم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر كان يوصيه: "وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"، إلّا أنّ الحسابات السياسيّة هي التي تفوّقت في النّهاية وصبغت الجميع بصبغتها؛ فأصبح الآخر الكافر شيطانًا رجيمًا لا مكان لأيّ خيرٍ في وجوده! وبذلك اختفى البحث عن المشتركات، واختفى معها أهم عنصر مشترك وهو الإنسانيّة التي تجمع الغالبيّة السّاحقة من النّاس على هذه الأرض.
وقد بلغ اهتمام الإسلام بالإنسانيّة مبلغًا عظيمًا بحيث أنّ الله تعالى قد جعل أجر حفظ الإنسانية الجنّة. فإذا حفظت عقلك فسوف تكون من أهل الجنة. وإذا حفظت مشاعرك الإنسانيّة فسوف تنال الجنّة. ولو خرجت من هذا العالم من دون أن تحصد زرع الإيمان والتقوى، فأنت ممّن يُرجى له الخير الكثير في الآخرة، لأنّك كنت تساهم في حفظ أعزّ ما خلق الله في العالم.
فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله: ِ "يَا عَلِيُّ مَنْ تَرَكَ الْخَمْرَ لِغَيْرِ اللَّهِ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُوم. فَقَالَ عَلِيٌّ (ع) لِغَيْرِ اللَّهِ! قَالَ: نَعَمْ، وَاللَّهِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ يَشْكُرُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِك".[2]
وحديثٌ آخر مؤكِّد لهذه القضيّة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "منْ تَرَكَ الْخَمْرَ لِلنَّاسِ لَا لِلَّهِ، صِيَانَةً لِنَفْسِهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ".[3]
فلاحظ كيف يثيب الله ذلك الإنسان الذي لا يرضى أن يهين إنسانيّته بشرب الخمر المُذهِب للعقل. إنّه إنسانٌ يحترم كرامته ويعلم أنّ ذهاب العقل سيجرّ عليه الكثير من المواقف المهينة والتصرّفات البهيميّة.
وفي حديث آخر أنّ الله تعالى يدخل الأب الجنّة بعطفه على ولده.
ورُغم أنّ العطف على الأبناء سِمة عامّة في معظم آباء العالم، لكن حيث أنّ هذا الرجل قد حفظ أبوّته، التي هي من خصائص الإنسانيّة، فسوف يكون ثوابه الجنّة.
أجل، هذه هي تعاليم الإسلام التي تدلّ على منظومته القيميّة ورؤيته الكونيّة العظيمة، والتي اختفت وراء النّظرات الضيّقة والمحدوديّات التشريعيّة التي وقع فيها الكثيرون؛ فأدّى ذلك إلى غياب أحد أروع وأجمل أبعاد الإسلام عن أعين البشريّة، وقبلها عن متن حياة المسلمين.
[1]. بحار الأنوار، ج58، ص 129.
[2]. من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 353.
[3]. الأمالي الطوسي، ص 695.

نحو الإنسانيّة العالميّة
الإنسانية قيمة عظيمة يمكن أن تشكّل جامعًا مشتركًا نبدأ منه للتحاور والتقارب كبشرٍ وشعوبٍ مختلفة في الديانات والثقافات. فما هي أهم مقومات الإنسانية وما هي النظرة الإسلامية للإنسانية؟ ولماذا تحتاج البشرية اليوم إلى هذه النظرة لتغتني وتسعد؟

القاعدة الأولى للكمال والفضيلة
إذا كنت تمتلك الإيمان فابشر بالنّجاة والفوز يوم القيامة، لأنّ الإيمان بالله هو العملة الوحيدة والصكّ الأوحد الذي يجعلك لائقًا للجنّة. فلا ننسى أنّ الجنّة هي محل لقاء الله. وكيف يحصل لقاء الله من دون القبول والإقبال عليه؟!
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...