
المعجزة الكبرى
السيد عبّاس نورالدين
ها هي إرادة الله ومشيئته التّامّة تتجلّى للبشريّة في قالب اللفظ والبيان في أروع صوره!
ها هي عظمة الله المطلقة تفتح طريق الارتقاء إليها عبر كتابٍ يقرأه من يشاء!
ها هي قدرة الله الغالبة وحضوره الأقوى ونصره الأعزّ ورايته العُظمى وكلماته التّامّات وآياته الباهرات..
ها هو حبل الله المتين وسراجه المنير ودعوته الكاملة..
ها هو الشّفاء من كلّ داء والسّلامة من الآفات والرّضوان الأكبر..
ها هي حجّة الله التّامّة وقد اتّصلت الأرض بالسّماء وفتحت أبواب الغيب..
وها نحن نعيش في عصرٍ بلغت فيه غواية الشّيطان شأوًا لم تعرفه البشريّة من قبل. وفي هذا الزّمن يستشعر المؤمنون شدّة الحاجة والتّعطّش إلى قوّة معنويّة عظيمة تثبّت أقدامهم وسط زلازل الباطل وبحر الشّهوات الهابطة وأمواج الوسواس المتلاطمة. وفي خضمّ ذلك كلّه نستحضر الوصيّة العُظمى لرسول الله صلّى الله عليه وآله حين قال: "فَإِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ ومَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ.. لَا تُحْصَى عَجَائِبُهُ ولَا تُبْلَى غَرَائِبُهُ، فِيهِ مَصَابِيحُ الْهُدَى وَمَنَارُ الْحِكْمَةِ وَدَلِيلٌ عَلَى الْمَعْرِفَةِ لِمَنْ عَرَفَ الصِّفَةَ".[i]
وفي هذه الفتنة العمياء التي تطال الحجر والبشر ولا تذر بيتًا في الأرض إلّا ودخلته، لا يتهدّد خطر الانزلاق أبدان النّاس وسلامتهم، بل يطال جميع قواهم العقليّة والخياليّة والفطريّة التي تهدف إلى تمزيق إنسانيّتهم وتغيير خلقتهم وسلبهم فرصة النّجاة ليتحقّق بذلك هدف الشّيطان كما حكى الله تعالى عنه قائلًا: {ولَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبينا}.[ii]
فها هي البشريّة اليوم تئنّ تحت وقع الأمراض الجسديّة والنّفسيّة والمعضلات الاجتماعيّة والأزمات الروحيّة والمشاكل السياسيّة والصّعوبات الاقتصاديّة والكوارث البيئيّة؛ وهي تتطلّع إلى المُنقذ وتستصرخ وسيلة النّجاة. وقد يئست من كلّ ما لديها أو تكاد.
وفي خضمّ هذه المواجهة الكبرى، سيكون للقرآن جولةٌ أخرى بعد أن حطّم أركان الشّرك الجاهليّ. وحينها ستكون البشريّة على موعدٍ جديدٍ مع معجزةٍ إلهيّة تمتدُّ من السّماء لنجدتها وخلاصها من بؤسها وآلامها.
هكذا سينفتح الباب بعد اليأس والخراب على عالمٍ عظيم من الرّحمة والهداية والشّفاء والاقتدار، ويتشكّل هذا العالم عبر إقامة كتاب الله في شؤون الحياة.
ولكي يتحقّق هذا الوعد كما حصل في الإعجاز الأوّل، قبل ألف وأربعمئة سنة، كان لا بدّ من شخصٍ يقود التّجربة الإنسانيّة يكون بمنزلة شريك القرآن في عمليّة التغيير، {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}.[i] فوجود الإنسان القرآنيّ هو مقدّمة ضروريّة لإقامة المجتمع القرآنيّ، لأنّ القرآن وإنسانه لا ينفصلان، كما أضاء نبيّ الإسلام قائلًا: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْض".[ii]
فالكتاب والعترة حبلٌ واحدٌ للإنقاذ، لا يمكن التّفريق بينهما وإلّا انقطع الحبل وبعُدت النّجاة.
وعلى هذا الأساس، فإنّ إقامة كتاب الله في حياتنا تستلزم إقامة الإمامة الربّانيّة فيها. وما لم يتحقّق الظّهور المبارك لناشر العدل فلن تتم حجّة القرآن. فظهوره مقدّمة لإقامة مجتمع التمسّك بالثّقلين. ولا شك بأنّ أحد أهمّ الأعمال التي تمهّد لهذا الظّهور المبارك هي الدّعوة إلى القرآن والإقبال عليه والسّعي لترسيخ حكومته وقيادته في الحياة، فالقرآن يدعو إلى الإمام، مثلما أنّ الإمام يدعو إلى القرآن.
رُغم رسوخ حُرمة القرآن في حياة المسلمين، إلّا أنّ رعاية حقّه لا تزال أقل بكثير من الحدّ الأدنى المطلوب. ولا يزال هناك الكثير من الأمور والحقائق حول القرآن مجهولًا في أوساطنا. ولهذا، سعينا في هذا الكتاب من أجل المساهمة في تعريف المسلمين على عظمة القرآن وأهمّيّته ودوره والمسؤوليّات الأساسيّة تجاهه والموانع التي تؤدّي إلى التّقصير بحقّه. على أمل التقدّم نحو هذه الحقيقة الكبرى التي جعلها الله مع عترة نبيّه وسيلة نجاة هذه الأمّة وعزّتها وكرامتها في الدّنيا والآخرة.
[i]. سورة النحل، الآية 44.
[ii]. وسائل الشيعة، ج27، ص 34.
[i]. الكافي، ج2، ص 598- 599.
[ii]. سورة النساء، الآية 119.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...