
معيشتنا تحدّد مصيرنا!
السيّد عبّاس نورالدين
أجل، معيشتنا تحدّد مصيرنا الأبديّ. فقليل من التأمّل في تحدّيات العيش في الدنيا يجعلنا ندرك كم هي عميقة هذه القضيّة وكم هي مرتبطة بقضايا الكون الكبرى.
فلنبدأ أوّلًا بالتأمّل في حاجة الإنسان إلى الرّزق (من طعام وشراب وأسرة ومسكن وملبس وغيرها من شؤون الحياة الدنيا)، فأوّل ما نقطع به أنّ هذه الحاجة قاهرة وفوق إرادة البشر، ولا يمكن لأحد أن يتخلّص منها.. أن تكون بشريًّا تعيش على الأرض، فأنت مجبرٌ على تأمين سلسلة من الحاجات التي لا تتوافر بالمجّان. وهذا يعني أن تسعى وتعمل وتتحرّك، بمعزل عن طبيعة التحرّك والسعي.
وحين تكون الموارد الطبيعيّة محدودة (وإن كانت كافية للجميع) فهذا يعني ضرورة تنظيمها. فأنت لا تمدّ يدك فتحصل على ما تريد بمجرّد الإرادة (ذلك هو العالم الآخر!). والتنظيم يرتبط بالعلاقات البشريّة والتبادلات التي تجري بين الناس، وهو ما جعل الإنسان مدنيًّا بالاضطرار، واجتماعيًّا بالعقل العمليّ. فقد اكتشفنا نحن البشر أنّ تنظيم حياتنا الاجتماعيّة وإقامة الروابط والعلاقات الثابتة من شأنه أن يلبّي معظم الحاجات التي نضطر إليها.
وهكذا أصبح الإنسان عبدًا للحاجة وعبدًا للغير، فارتهنت حياته الدّنيا بتأمين حاجاته وبالارتباط بالآخرين. وفي قانون الخلقة، نعلم بأنّ الله تعالى قد قهر عباده وأخضعهم بالاحتياج. لكنّه سبحانه وتعالى سرعان ما ألهمهم أنّ كل ما يحتاجونه مقسوم عنده وفي قبضته وصادر من خزائنه؛ لأنّ كل شيء مخلوقٌ له وقائم به.
فالذين استطاعوا أن يخضعوا معيشتهم ومعاشهم لهذه الحقيقة الكبرى، انعتقوا من تلك العبوديّة وأدركوا حقيقة الارتباط بالله تعالى، وعلموا أنّ العبودية له هي ضمانة سعادتهم وحرّيتهم وعزّتهم. أمّا الذين سقطوا في هذا الاختبار الكبير، حيث ساقتهم حاجاتهم ليكونوا عبيدًا للنّاس، فقد رهنوا دينهم وأرواحهم للناس. ولئن كان الحديث الشريف يقول: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده"، فإنّ الاحتياج إلى الآخر أشدّ تعبيرًا عن هذه العبودية. والعبوديّة هنا تعني الانسياق نحو الشيء والسير على طريقه. فإذا كنت تريد أن تعرف حقيقة أي إنسان فانظر إلى معيشته وكيفيّة تأمين رزقه، مهما كان له من الجاه والمنصب والاعتبار.
ذاك الرّئيس الذي يرتزق من التجّار الرأسماليّين لا يمكن أن يكون حرًّا مستقلًّا. وذاك العامل الذي يرى معيشته من الناس، سيجعل نفسه تابعًا لهم. وذاك العالم الديني الذي يقبض راتبه من الحكومة من الصعب جدًّا أن يخالفها أو ينهض بوجهها.
فمن أراد أن يعرف مصيره الأبديّ فليبدأ بأكبر قضيّة في حياته، وهي قضيّة الحياة على الأرض وكيفيّة العيش والبقاء فيها.
إنّها قضيّة الرّزق وتأمين المعاش التي نحدّد على أساسها نظرتنا وطبيعة ارتباطنا المعنويّ وتوجّهنا القلبيّ.
ومن أراد أن يكون لله وأن يصل إلى رضوانه، فلا بدّ أن يتحرّر من الارتزاق من الناس، وإن كان رزقه يصله عبرهم.
لقد أثبتت التّجارب الكثيرة للأفراد والجماعات أنّ من يجعل رزقه تابعًا لجهة أو شخص، فسوف يرهن كلّ حركته لهذه الجهة أو ذاك الشخص. وكم من جماعةٍ قامت بأعمال هائلة وكبيرة، ثمّ انطفأت بمجرّد أن توقّف الدّعم لها!

فن تدبير المعيشة (١)
تدبير المعاش يتطلب مهارات عديدة. ولكن ينبغي أولا أن نتعرف إلى هدف العيش في هذه الدنيا وابعاده. لأن المعاش الصحيح ينطلق من مبادئ صحيحة. وبعد ذلك يصبح مهارة وفنا يحتاج إلى الحكمة والممارسة السليمة. فما هي هذه المبادئ وكيف نطبقها تطبيقًا صحيحًا؟

ذلك الرجل الخمسيني البائس... ماذا لو أصبحت عاطلًا عن العمل وأنت في الخمسين؟
من المشاهد المؤلمة التي لا أنساها ما حييت حين كنت أرى رجلًا خمسينيًّا لم يهرم ولم يفقد قواه ونشاطه، لكنّه فقد وظيفته، وهو مع ذلك لا يجد عملًا يؤمّن لعائلته قوت يومها وحاجاتها الأساسية؛ كنت أراه مضطربًا حائرًا وقد انطفأت شعلة الحياة من عينيه رغم أنّه ما زال في منتصف العمر.

همومك تحكي من أنت
الهموم والهواجس وما يصاحبها من حيرة وقلق أمور تنشأ من طبيعة تواجدنا في هذا العالم المتحوّل والمتبدّل. جهلنا بالمستقبل وصعوبة إدراك الغيب تولّد فينا الهمّ والاهتمام. فكل قضايانا وشؤون حياتنا قابلة للتحوّل والتغير، مهما كانت الضمانات التي حصلنا عليها بشأنها. فلا أحد يمكنه أن يجزم بأنّ أوضاعه المالية ستبقى هكذا إلى نهاية العمر.

تعالوا نرتقي بهمومنا
لما كان الهمّ نابعًا من الاهتمام الممتزج بالقلق، ولمّا كان الهمّ أمرًا طبيعيًا في سنّة الكون ونظام الحياة الدنيا، فسوف يكون عنصرًا مفيدًا إن ارتبط بالنظام الكوني الأعلى.

نحو اقتصاد عائلي ذكي
العنوان الأبرز في الدين هو أنه دين يحقق للبشرية سعادة الدنيا والآخرة. ولا سعادة في الدنيا مع الفقر والعوز والحرمان. فكيف نفسّر فقر عدد كبير من المسلمين وما هي الأصول الدينية الأساسية التي تحقق للمسلم رفاهيته وسعادته في الدنيا إن هو إلتزم بها؟. ما هي الاجراءات المهمة التي ينبغي ان نعمل عليها من أجل بناء حياة معيشية سليمة تضمن لنا تحقيق سعادة الدنيا والآخرة. وما هي الاخطاء القاتلة التي يمكن ان نرتكبها على صعيد الاقتصاد، فتؤدي إلى تعاستنا في الدنيا والآخرة.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...