
هل سمعتم بالذكاء الأخروي؟
السيد عباس نورالدين
حين طرح روّاد الأبحاث العلمية المتعلقة بعلم النفس والتعليم والتربية وجود أنماط متعددة للذكاء، من المؤكد أنه لم يخطر على بالهم وجود نوع خاص من الذكاء يمكن أن نطلق عليه الذكاء الأخروي. أي الذكاء المتعلق بالحياة الآخرة.
ولكي نفهم ما المقصود بالذكاء الأخروي، ينبغي أولًا أن نلتفت إلى أنّ الذّكاء عبارة عن قدرة ذهنيّة ونفسيّة تجمع بين الفكر والمهارة العملية وترتبط بالوصول إلى شيءٍ ما، مثل حلّ المسائل الرياضية أو أداء حركات جسمانية أو التناغم مع أصوات موسيقية أو فهم المراد من الكلمات والجملات وغيرها. والذكيّ هو الذي يتميّز عن غيره في هذا الحقل أو المجال بسرعة الوصول إلى مراده فيه. لهذا، ذكر هؤلاء الباحثون مجموعة من أنواع الذّكاء بحسب الحقول والمجالات المعروفة بين الناس مثل اللغة والاجتماع ومعرفة الذات والرياضيّات واشتهر منها ثمانية أنواع.
إلّا أنّ المتأمّل في حياة البشر والذي يتفطّن إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله: "يا أبا ذر لا تصيب حقيقة الإيمان حتّى ترى الناس كلّهم حمقاء في دينهم عقلاء في دنياهم"، يمكن أن يدرك بسهولة أنّ لبعض الناس ذكاء يرتبط بتدبير الحياة الآخرة.
وفي مقابلهم الكثير من الناس الذين يتمتّعون بذكاءٍ دنيوي واضح، يتجلّى باهتمامهم وتركيزهم الشديد على أمور دنياهم وتدبير شؤون الحياة فيها. فهم يحسنون اختيار البيت والأثاث وتجميل الحديقة وانتقاء الثياب وإعداد الأطعمة الشهية والتخطيط للمُصارفات المالية وغيرها. لكنّك إذا نظرت من جهة أخرى، لن تجد للحياة الآخرة أي حضور في حياتهم، وكأنّ هذه الحياة غير موجودة، وكأنّهم لن ينتقلوا إليها يومًا ما. وما أقرب هذا اليوم. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى".
الذكاء الأخرويّ يعني تدبير الحياة وشؤونها على أساس إدراك المقاصد والأهداف العظيمة التي ستتحقّق في الحياة بعد الموت، وخصوصًا ما يتعلّق بالجنة ولقاء الله ورضوانه. ولا يمكن أن ينشأ هذا الذكاء إلا بعد الإيمان بوجود هذه الحياة، حيث يستولي هذا الإيمان على قلب الإنسان وعقله وذهنه وخياله، فتتوجّه قدراته واهتماماته نحوها. وفي هذا التدبير يدرك الإنسان أنّ أدنى مقارنة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة دليل على ضعف عقله وقلّة فهمه. فكيف يمكن أن يقارن العاقل بين النعيم المقيم والخلود الأبدي والحياة السرمدية وبين اللذات العابرة والحياة الفانية؟! فلا يتردّد بين هاتين الحياتين إلا من احتجب قلبه وانطفأ نور عقله. لأنّ من لديه أدنى درجة من العقل لا يقارن بين الصفر والمطلق. وهذا أقل ما يمكن أن يُقال عن الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
الذكاء الأخرويّ يجعلنا نجري حساباتنا في كلّ شيء وفق الحياة الآخرة وبما يتناسب معها ومع متطلّباتها.
فحين تصبح الآخرة محور اهتماماتنا (وهذا دليل على فهمنا للحقيقة الكبرى المتعلقة بالحياة ككل) فهذا يعني أنّنا امتلكنا أهم أنواع الذكاء. لأنّ الذكاء ليس في الوصول إلى أيّ نعمة أو فائدة، بل في إدراك النعمة الحقيقية والفائدة المطلقة.