
بين القيادة العلمية والقيادة الذرائعية
السيد عباس نورالدين
لعله لا يوجد نعمة أهم وأعظم من نعمة القيادة المخلصة لأي مجتمع بشري. ففي ظل هكذا قيادة يمكن أن نرجو للمجتمع أن ينهض ويزدهر ويصل إلى أعلى مراتب القدرة؛ وفي ظل غياب هكذا قيادة، فإنّ المجتمع، وإن كان يتوافر على جميع أنواع الإمكانات والاستعدادات البشرية والطبيعية والمادية والتاريخية والثقافية، لن يسير إلا نحو الانحدار والتخلّف والخسران المبين.
لهذا، لا يصح أن تتمّ المقارنة بين المجتمع ذي القيادة الصالحة والمجتمع الذي يفتقد إلى مثل هذه القيادة؛ لأنّها ستكون مقارنة بين التقدّم والتخلّف. بَيد أنّ للحصول على هذه النعمة الفائقة أسرار يرجع معظمها إلى الأحوال النفسية والثقافية التي تسيطر على المجتمع؛ وذلك على قاعدة {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِم}.[1] وهكذا ستكون القيادة في نشوئها مدينة أو مرهونة إلى حدٍّ كبير إلى هذا الواقع النفسي أو الأنفسي وما يحتويه من استعدادٍ خفي؛ وعلى ضوء ذلك ستتفاوت القيادات الصالحة من حيث القوة والقدرة وتكون درجات؛ وبسبب ذلك، ستتحدّد سرعة حركة المجتمع في ظلها والنتائج التي تنجم عن ذلك.
إلا إنّ هناك اختلافًا بيّنًا بين القيادات المخلصة أيضًا، وهو ما يرجع إلى بعد النظر ومستوى الرؤية وطبيعة ارتباط واتّصال هذه القيادة أو تلك بواقعها والإمكانات المتاحة. ففي بعض الحالات، قد تعجز هذه القيادة الصالحة عن ملاحظة بعض عناصر القوة التي يُفترض أن تستثمرها، أو قد تعجز عن فهم طبيعة التحوّلات التي تحدث في قلوب الناس وأنفسهم وهي تبني على ما عرفته منهم قبل عقود؛ فتظن فيهم ضعفًا هو ليس موجودًا أو ترى تهديدًا محيقًا أكبر من حجمه أو تغفل عن بعض مخاطر واقعية. وهكذا، ستكون إدارتها للموارد والإمكانات متأثرة بهذا النظر إلى حدٍّ بعيد.
وإنّ أحد أهم الاختلافات بين القيادات هو ما يمكن أن نلاحظه في هذا المجال، حيث نجد نوعًا من القيادات التي يغلب عليها التذرع، ونجد في المقابل نوعًا من القيادة التي تثق بالناس وتؤمن بهم، مهما ظهر فيهم من وهن أو ضعف أو أخطاء.
ولعلّ العامل الأول الذي يحدّد هذا الاختلاف يرجع إلى أنّ القيادة الذرائعية هي قيادة مغلوبة للأوضاع والظروف والإمكانات المتاحة، في حين أنّ الثانية تنطلق من الإيمان بالقوى والإمكانات الكامنة، والتي تكون بحسب الرؤية الكونية مبنية على قاعدة {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُون}،[2] أي أنّها إمكانات تُفاض على الأمة بحسب ثقة القائد ودعوته وخططه وبرامجه.
وإنّ إحدى أهم الموارد والإمكانات التي يفيضها الله على العباد هو ما يمكن أن نطلق عليه عنوان القدرة العلمية، التي تظهر بصورة الاستفادة الحسنة من الاكتشافات والمعارف المختلفة على صعيد إدارة شؤون المجتمع كافة. ففي ظل القيادة العلمية يؤمن الناس بأنّ قائدهم إنّما ينطلق من العلم بمعناه الواسع وذلك في أي عملية يأخذ فيها القرار ويصدر الحكم؛ فهو عالم قبل أي شيء، ويتّصل بالعلماء لأنّهم مجاري الفيض العلمي، ويرى كلّ اكتشاف علميّ رصيدًا إضافيًّا، ويؤمن بأنّ القوة الواقعية التي يمكن أن يواجه بها الأعداء أو يحل بها المشكلات أو يضع على أساسها البرامج إنّما هي العلم. ولأجل ذلك فالعلماء في ظلّ هكذا قيادة معزّزون ومقدّرون ولهم الفضل الأكبر في حياة الأمة، على قاعدة الحديث المشهور "وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ"؛[3] فهم يمثلون العنصر الأهم في القدرة الاجتماعية.
ولا شك بأنّ تعزيز دور العلماء الواقعيّين في جميع المجالات الحياتية (كما في الرؤية الكونية والعقيدة والقيم والأحكام والطبيعيات والعلوم الاعتبارية كاللغة و..) إنّما يكون في تقديم دورهم كعلماء من خلال تقديم كشوفاتهم ونتاجاتهم العلمية. وبعبارةٍ أخرى، في ظلّ هذه القيادة، يشعر كل مجدّد ومكتشف وصاحب فكرة جديدة أنّ ما يقدّمه للمجتمع يلقى الاستقبال المناسب والعناية المطلوبة (وهذا ما يظهر في سرعة تلقف نتاجاته واكتشافاته والأفكار الجديدة).
القيادة العلمية هي التي تستثمر المعارف إلى أقصى حد في عملية إدارة المجتمع. ولأجل ذلك، فهي تشعِر العلماء بمحورية دورهم على صعيد الكشوفات وما يصطلح عليه بالإنتاج العلمي، فيرى هؤلاء العلماء والمفكرون سهولة تسييل ما يقدمونه في مجالات الإدارة المختلفة. ومثل هذا الأمر ليس بالشيء السهل، إذا كانت القيادة ترى أنّ العلم الموجود كافيًا، وأنّه لا حاجة لأي فكرة جديدة، ناهيك عن أن ترى في الكشف نوعًا من البدعة.
أمّا القيادة الذرائعية هنا، فإنّها سترى العلم من زاوية تأثيره على وحدة الكلمة وعلى استتباب الأوضاع؛ فبمجرد أن تشعر بأنّ هذه الفكرة الجديدة ستهز الوضع وتفرّق الكلمة حتى تعمل على وأدها من خلال تجاهلها وتجاهل أهلها أولًا.
القيادة العلمية التي آمنت بدور العلم كقوة اجتماعية أساسية وكمحرك وحيد لقطار التقدم، سوف تعمل على استحداث كل الآليات المناسبة لاستقطاب العلماء وملاحظة نتاجاتهم الفكرية العلمية وترويجها وتسييلها في المجتمع؛ وقبل ذلك ستعمل هذه القيادة على تشكيل النظم اللازمة والفعالة لجعل العلم في موقعيته الصحيحة ضمن عمليات أخذ القرار في جميع المجالات. ولا يعني ذلك أن نجعل العلماء على رأس جميع الأمور بالضرورة، بل أن نجعل أصحاب القرار من أهل العلم الذين يكثرون من مناقشة العلماء ومباحثتهم والاستفادة من محضرهم وآرائهم وتقدير جهودهم.
المجتمع الذي يشعر العالِم فيه أنّه مهمّش، وأنّه مهما قدّم من أفكار لا يتم النظر إليها، هو مجتمع غير مرضيّ عند الله مهما كانت الذرائع التي يطلقها قادته؛ لأنّ العالِم سيشكو إلى الله هجرانه كما جاء في الأحاديث الشريفة. والمجتمع الذي يكون مورد شكاية عند الله لا يُتوقع له التقدم والظفر والانتصار.
[1]. سورة الرعد، الآية 11.
[2]. سورة الذاريات، الآية 22.
[3]. مستدرك الوسائل، ج17، ص 316.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...
مجالات وأبواب
نحن في خدمتك

برنامج مطالعة في مجال الأخلاق موزّع على ثمان مراحل
نقدّم لكم برنامج مطالعة في الأخلاق على ثمان مراحل