
فلتتواضع المدارس
لماذا تعدّ نزعة الاستبداد العلمي عدو التعليم؟
السيد عباس نورالدين
تمارس مدارس اليوم نوعًا من الاستبداد العلمي لا يقل خطورة عن الاستبداد الإداري الذي يضحي بإحدى أهم القيم الإنسانية المرتبطة بالحرية والاستقلالية. إنّ الحرية الفكرية التي تُعد من أهم عناصر التكامل العلمي، تتعرض في النظام المدرسي ـ ومنذ أن تم استيراد شكل المدرسة التعليمية الغربية ـ للإضعاف المستمر.
الحرية الفكرية تعني تمكين الطالب من أن يرى الآفاق الواسعة للبحث عن الحقيقة ما وراء المدرسة ومناهجها ومعلميها؛ خصوصًا في عصر ثورة المعلومات وسهولة الوصول إلى المعرفة ووفرة الحلول والاقتراحات.
والحرية الفكرية تعني شعور الإنسان بالشجاعة التامة ليفكر خارج نطاق المعمول والمألوف من المناهج والمقررات.
هذا، في الوقت الذي نرى مدارس اليوم مصرة على الأسلوب الوحيد في حصر العلم بالكتاب المدرسي وفي المعلّم الأوحد؛ سواء جرى ذلك عبر آليات التقييم والتقويم أو عبر اتّباع طرق التعليم التقليدية. ومثلما ينبغي للطالب أن يتعرف إلى الأساليب المختلفة للتعلّم والاكتساب، ويؤمن بإمكانية اكتشاف طرق جديدة للوصول إلى الحقيقة، كذلك ينبغي أن يدرك بأنّ العلم أوسع من أن يكون في كتاب أو معلّم؛ وهذا ما يستدعي أن تلتزم المدرسة بقيمة التواضع وأن تربي تلامذتها عليها.
تواضع المدرسة يستلزم اعترافها المسبق بأنّها تمثل وسيلة واحدة من بين عشرات الوسائل للتعلم؛ وهذا ما يستدعي حث الطالب وتشجيعه على البحث خارج جدرانها ومقرراتها، واعتبار ذلك فضيلة وقيمة إيجابية.
تواضع المدرسة يعني أن ترسخ ـ ومنذ الأيام الأولى لانتساب الطالب إليها ـ فكرة أنّها ليست المكان الوحيد الذي سيسلك فيه طريق التكامل العلمي، بل إنّها إحدى الطرق المتاحة أمامه، وهي تعمل على مساعدته لبلوغ أعلى المراتب العلمية والفكرية.
تواضع المدرسة يعني إتاحة المجالات المختلفة للتعلّم خارج النطاق الصفي وتعريف الطالب عليها أيضًا؛ خصوصًا مع توافر كل هذه المجالات على الشبكة العالمية.
تواضع المدرسة يعني ترسيخ قيمة تحمّل المسؤولية الذاتية تجاه التعلم باعتبار أنّ التلميذ مسؤول أولًا أمام الله (وقبل أي أحد)، ومسؤول أمام والديه ونفسه؛ أمّا المدرسة كمؤسسة فهي لا تحاسب إلا ضمن عقد واضح واتّفاق صريح مع الوالدين؛ فهي ممثل شرعي لأولياء الأمور في ولايتهم المعينة من قبل الرب المتعال، الذي يحدّد واجبات واضحة تجاه الأبناء.
تواضع المدرسة يعني عرض مختلف نماذج الكتب والمقررات التعليمية من مختلف بلاد العالم في أي موضوع أو مسألة علمية، مع التأكيد على حق الطالب في دراسة ومطالعة ما يحلو له منها، من أجل التمكن من المعارف والمهارات اللازمة.
تواضع المدرسة يعني التأكيد المستمر على كونها في خدمة التلميذ بكل إداراتها ومعلميها ومرافقها؛ بل هي في الواقع وبسبب عقد الإيجار مثل متعلقات التلميذ وممتلكاته، التي يحتاج إلى حفظها وصونها من أجل أن يستفيد منها بأفضل ما يمكن.
تواضع المدرسة يستدعي خطوة جريئة على صعيد اختيار المعلّم، ليكون ذلك أنموذجًا جيدًا للتلميذ أينما كان، بحيث يمكنه أن يختار معلمه ومرشده الذي يتناسب مع مزاجه وطريقته؛ لأنّ الدنيا لا تخلو من الأستاذ المناسب والمرشد الناصح، الذي يجعل التلميذ أكثر تفاعلًا مع التعلم والعلم.
مثل هذا التواضع قد يكون في البداية مستحيلًا أو مكلفًا، لكن إذا عُمل به سيكون عاملًا أساسيًا لازدهار المدرسة ونجاحها وتميزها.
تصور لو أنّ أبناءك يستطيعون اختيار معلّمهم من بين عدد من المعلمين الذين يتم الاتفاق معهم على هذا الأساس. فلا يتم التعاقد مع المعلم على مدى الحياة، ولا على أساس الانحصار، بل على أساس النجاح الذي يظهر في عدد الطلاب الذين يحضرون صفوفه ويحققون معدلات نجاح مميزة.
لو أنّ المعلّم دخل إلى التعليم وهو يواجه مثل هذا التحدي، لكان ذلك كفيلًا بأن يبذل المستحيل لكي ينجح، بما يعنيه هذا من اهتمام فائق في التطور وبناء الذات واكتشاف الآفاق.
وطالما أنّ المدرسة بحاجة إلى عدد محدد من الطلاب في الصف أو الفصل الواحد لتأمين أعباء التعليم، فإنّ هذا الأسلوب من شأنه أن يحقق فائضًا مهمًّا من العوائد.
إنّ مناهجنا المدرسية بأمسّ الحاجة إلى كل ما يساعد على ترسيخ مبدأ المدرسة المعينة لا المهيمنة، وذلك عبر عملية ذكية ترسخ الوعي الذاتي عند الطالب، فيتحرر من عقدة الاستبداد العلني والخفي، وينطلق في آفاق الحياة، وهو يشعر بالحرية التامة والمسؤولية المطلقة تجاه نفسه ومجتمعه.

حين يصبح العلم كلّ شيء: ما هو دور المدرسة في تزكية النّفوس؟
حين يُطرح موضوع تزكية النّفس وتهذيبها، فلا شك أنّنا سنكون أمام قضيّة عمليّة. فالتزكية فعل والتّهذيب عمل، ولهذا قيل أنّ تهذيب النّفس لا يمكن أن يتحقّق من دون مجاهدة وسلوك.

كيف تصنع المناهج هم تهذيب النفس؟ إطلالة معمقة على دور المدرسة في التربية
يمكن للتعليم المدرسي أن يساهم مساهمة كبرى في توجيه المتعلم نحو أحد أكبر قضايا الحياة وأهمها وأكثرها تأثيرًا على حياته ومصيره، ألا وهي قضية تهذيب النفس والسير التكاملي إلى الله. ولا نقصد من التعليم المدرسي تلك البيئة الفيزيائية المتعارفة، التي يمكن أن تكون معارضة تمامًا لهذا النوع من التربية والتأثير، وإنّما المقصود هو المناهج التعليمية التي يمكن صياغتها وتطويرها بحيث تصبح قادرة على جعل قضية التكامل المعنوي الجوهري همًّا واهتمامًا أساسيًّا، يعيشه المتعلم ويمارسه في هذه المرحلة العمرية الحساسة.

الدور المصيري للمدرسة كيف نعدّ أبناءنا للتعامل مع قضايا الحياة الكبرى؟
كل إنسان بحاجة إلى الحكمة للتعامل مع قضايا حياته المختلفة، فالحكمة ترشدنا إلى قوانين النجاح والفشل، والحكيم هو الذي يتّخذ المواقف المناسبة انطلاقًا من فهمه وإدراكه لهذه القوانين.

المدرسة المثاليّة ... وأهم مخرجاتها
هناك عدّة أمور تحتّم علينا تطوير مدارسنا، بدءًا من الشكل والبناء، وانتهاءً بالمناهج، مرورًا بالبيئة والأساليب والإدارة. وأحد أهم هذه الأمور هي التحدّيات المفروضة علينا، والتي لم نبدأ يومًا بمواكبتها ومواجهتها بواسطة التعليم العام وفي جبهة البيئة المدرسيّة.

معضلة الكتاب المدرسي.. لماذا ينبغي أن لا يكون هناك كتاب مدرسي؟
لعب الكتاب المدرسي دورًا مهمًّا في تقديم المعارف الميسرة في مختلف المراحل المدرسية، بأسلوبٍ يزيل عن كاهل الطلاب الكثير من الجهد؛ لكنّه في الوقت نفسه أدّى دورًا سلبيًّا للغاية يمكن اختصاره بأنّه ضيّق أفق التلميذ وأضعف دور الكتاب كمصدر للمعرفة. غالبًا ما ينظر تلميذ المدرسة إلى الكتاب على أنّه المرجع الوحيد للمعرفة. فقد تم إعداد الكتب المدرسية لتكون مغنية وافية في الظروف التي لا يمكن للتلميذ أن يصل إلى أي نوع من المصادر المعرفية المرتبطة بالقضايا التي يدرسها.

صناعة التلميذ المتفوّق.. لماذا يجب أن تعيد المدارس النظر في ماهية التفوّق؟
إذا كنّا نريد أن نبقى في عصر الذّكاء الاصطناعي ونحافظ على هويّتنا وثقافتنا، يجب أن نعيد النظر فيما نعرفه عن القدرات التي تمنحها المناهج الجديدة لإنسان الغد.. لا يبدو أنّنا منتبهون إلى التحوّلات النوعيّة، في الأمور التي يمكن لهذه المناهج أن تكسبها لطلّابها والتي تجعل أبناء مدارسنا يظهرون كأقزامٍ صغار.

ثورة العلم الحقيقية.. الطريق الأقصر لإصلاح المجتمع
إنّ الطريق الوحيد لنشر الفضائل في أي مجتمع، والحد من مخاطر الرذيلة وانتشار المعاصي، يكمن في أمرٍ واحد وهو: رواج روحية طلب العلم؛ فالعلم هو الخير الفريد الذي يمكن أن يشبع روح الإنسان إلى الدرجة التي لن يشعر معها بالرغبة في طلب الدنيا ومتاعها الزائل؛ ومتى ما انعدمت هذه الرغبة الدنيئة وزالت دوافعها المنحطة انقطع معها أصل الخبائث واستؤصل جذر الرذائل.

صناعة عالم الدين في المدرسة
بإمكان المدرسة أن تحقّق المعاجز ضمن الإمكانات المتاحةيدرك المتخصّصون في مجال العلوم الدينية أنّ تحصيل مستويات عالية من المعرفة والتخصّص والمهارات التعليمية أمرٌ ممكنٌ بسنواتٍ قليلة، وحتى دون شرط إنهاء المرحلة الثانوية. وفي الوقت نفسه لا يشك خبير متضلّع بما في هذه المعارف من تأثيرٍ عميق على مستوى صقل الشخصية وتقويتها وتوازنها؛ الأمر الذي نفتقد إليه كثيرًا في مدارس اليوم حيث العجز والانفكاك بين العلوم والتربية.

كيف تتغلب المدرسة على العقبة الأولى أمام بناء المجتمع؟ لماذا تعزز مناهج اليوم النزعات الفردية وفرار الأدمغة
بالنسبة لأي مجتمع في العالم، لا يوجد ما هو أسوأ من تضييع الطاقات الشابة الخلاقة والفعالة التي يحتاج إليها للتقدم والازدهار وحتى البقاء.. شباب اليوم هم مدراء البلد والمسؤولون عن تقرير مصيره، والفارق الزمني الذي يفصل بينهما لا شيء مقارنة بعمر الأوطان؛ لهذا، فإنّ أي مجتمع سرعان ما سيلحظ الخسارة الكبرى من تضييع الطاقات الشابة.

المدرسة الواقعية.. كيف ستكون مدرسة المستقبل
حين يكون المجتمع حرًّا ويمتلك أبناؤه الوعي الكافي لتقرير مصيرهم، هكذا ستكون المدرسة.إنّ أفضل إطار تنظيمي للمدرسة يتمثل في الأبعاد القيمية التي تضمن نموًّا حقيقيًّا وسريعًا للشخصية؛ وذلك بأن تكون المدرسة نموذجًا مثاليًّا للعالم الذي يُفترض أن يعيش فيه الإنسان لكي يتكامل ويحقق أفضل وأعلى مستوى من التفاعل مع عناصره ومكوّناته.

دور المدرسة في تقوية الفطرة
لكي يتحرّك الإنسان على طريق الكمال، يحتاج إلى عاملين أساسيين؛ الأول تشخيص الكمال الواقعي، والثاني الاندفاع نحوه. وقد تكفّل الله تعالى بتأمين هذين العاملين حين نفخ في الإنسان من روحه. فتشعّب هذا الروح إلى هاتين القوتين المسمّاتين بالعقل والفطرة.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...