حول اكتشاف منهاج الشريعة.. دور الأولويات في تشكل المنظومة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب أي مجتمع نريد
لا تتم معرفة الدين الحق إلا بمعرفة شريعته التي هي خطة الله ومظهر إرادته الكلية ونظامه للحياة البشرية من أجل تحقيق الأهداف الإلهية.
على مدى العصور جرى التركيز على استنباط أحكام هذه الشريعة عبر اتباع أسلوب التجزئة والموضوعات وأسئلة الناس، وتم التغاضي عن منهاجها الكلي الذي يُفترض أن يعبّر عن روحها العامة وعن طريقتها في إدارة الحياة وتحديد الأولويات.
ما يحتاج إليه المسلم، بالإضافة إلى معرفة مسائل الابتلاء في حياته، أن يكتشف هذا المنهاج، لما له من تأثير بالغ على نظرته للحياة والمصير وأدائه ودوره المحوري على الأرض. بواسطة هذا المنهاج يصبح المسلم فاعلًا مبادرًا يسلك سبيل الريادة والإبداع، وتتضح له معالم بناء الحضارة الإسلامية التي أرادها الله أن تكون خير الأمم..
حين تنحصر نظرة المسلم إلى الشريعة باعتبار أنها تجيبه عن مسائل الابتلاء، فهو يفترض سلفًا نمطًا من الحياة ينبعث من نظرته الخاصة.
لكن منهاج الشريعة هو أمر أكبر من ذلك بكثير؛ فهو الذي يحدد المعالم الرئيسية لخطة الإسلام التغييرية الكبرى، ويكلف أتباعه بمسؤوليات وأدوار ما كانت لتخطر على بالهم. وفي هذا المنهاج ترتسم العلائق بين أحكام الشريعة وتتحدد أولويات العمل ومراحل الوصول إلى الغايات النهائية.. هنا سيعرف المسلم أن عليه الارتقاء والتدرج الصعودي في سيره إلى الله، وأن المجتمع البشري يحتاج إلى مراحل لكي يبلغ المدينة الفاضلة النموذجية.
إن أفضل طريقة لاكتشاف هذه المنظومة التي تبلور المنهاج الإسلامي تكمن في معرفة علاقات التفاضل بين أحكام الشريعة. وقد حفلت مصادر الإسلام المقدسة بمثل هذا النوع من التعبيرات والتصريحات. منها على سبيل المثال رواية منقولة عن الإمام علي عليه السلام يقول فيها: "مِنْ أَحَبِّ السُّبُلِ إِلَى اللَّهِ خُطْوَتَانِ خُطْوَةُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشُدُّ بِهَا صَفًّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَخُطْوَةٌ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ خُطْوَةٍ يَشُدُّ بِهَا صَفًّا فِي سَبِيلِ اللّه".[1]
لو لم نكن أمام مثل هذه الرواية، فإن الاجتهاد التقليدي التجزيئي يوصلنا إلى الحكم بأولوية الجهاد في سبيل الله على صلة الرحم، وذلك باعتبار أن الجهاد هو الطريق الوحيد لدفع أعداء الله عن الأمة الإسلامية ومقدساتها. لكننا أمام نص يتحدى للوهلة الأولى هذا الاستنباط ويدل على أن صلة الرحم أفضل من الجهاد ورص الصفوف العسكرية.
إنّ أي عاقل أو من يمشي على سيرة العقلاء يمكنه أن يكتشف مدى أولوية الجهاد وموقعيته الرفيعة حين يعاين ما يمكن أن يصيب المجتمع المسلم إن هو تراخى وتساهل في هذه الفريضة الكبرى. لا نحتاج إلى أدلة وبراهين. فالتجارب التي لا تُحصى تبين أنّ ترك هذه الفريضة أو التقصير فيها يؤدي إلى عواقب وخيمة على مستوى الدين والقيم والشريعة والدنيا، من ضياع العقيدة والإيمان وانحلال الأخلاق وشيوع الفساد والفقر والذل والعار وهتك الأعراض وزوال الهوية! وكل متشرع يعلم أنه لو تزاحمت إقامة الصلاة مع دفع الأعداء عن نواميس المسلمين لوجب ترك الصلاة والاشتغال بالدفاع والقتال. وهكذا سيكون حال الفرائض الأخرى في حال مزاحمتها لأمر الجهاد أيضًا. فهل نغض النظر عن مثل هذه الرواية التي تذكر أفضلية صلة الرحم على القتال، ونرميها بالضعف أو نعتبرها من موضوعات أولئك الذين أرادوا أن يسوّغوا لأنفسهم ترك الجهاد والقعود عن القتال؟
إن الغض عن اكتشاف هذا المنهاج العام للشريعة وأهمية عرضها وبيانها كحاجة أساسية في العمل والسلوك، والاكتفاء بعرض مسائلها وأحكامها على نحو تجزيئي، جرنا إلى إهمال البحث المطلوب في هذا النوع من الروايات والشواهد. ويمكن القول بأن هذه الرواية وأمثالها لم تكن بصدد بيان الأولوية في حال التزاحم الخاص الذي له حالاته وظروفه المحدودة والنادرة، وإنما كانت بصدد بيان جانب مهم من الرؤية الإسلامية للحياة التي يُشار فيها إلى نوعٍ آخر من الأولويات العليا التي يكون لها مستوى أعلى من التزاحم. وكأننا أمام تزاحم خاص وجزئي، وتزاحم عام وكلي. في الأول تكون الموارد مرتبطة بردة الفعل، وفي الثاني تكون موارد التزاحم مرتبطة بموقع الفعل والتخطيط والمبادرة ورسم الاستراتيجيات.
فإن أراد المجتمع المسلم أن يردع الأعداء دون قتال أو أن يحصن نفسه مقابلهم، فعليه، بناء على هذا الشاهد الملفت أن يولي قضية التكافل والتلاحم الداخلي أهمية فائقة، وذلك لما لهذا الأمر من قدرة ومنعة، تجعل الأعداء يحسبون ألف حساب قبل أن تسول لهم أنفسهم الاعتداء على المسلمين.
وهكذا تكون صلة الرحم ـ التي تُعد نواة هذا التلاحم الاجتماعي الكبير ـ عنصرًا مهمًّا في تجنيب المسلمين ويلات الحروب وأعباء القتال، فتتحرك قافلة الدعوة إلى الله بصورة أفضل وأيسر، وذلك عبر تقديم النموذج الأعلى للبشرية على صعيد نمط العيش وازدهار المجتمع.
لئن كان للجهاد في سبيل الله حسناته وإيجابياته التي لا تُحصى، لكنه لن يرقى إلى مستوى صلة الرحم والتلاحم على صعيد الإيجابيات والنتائج والثمار (إن أخذنا بعين الاعتبار قضية الأهداف الاجتماعية الكبرى). يكفي أنه في ظل هذا النوع من التماسك الداخلي سيتحرك المسلمون على طريق تحقيق أهداف الدين دون إراقة الدماء وحصول بعض الدمار الاضطراري، ليُثبتوا للعالم والكون كله أن الإنسانية تستحق شرف مقام الخلافة الإلهية؛ هنا بالذات حين لم ترَ الملائكة سوى الإفساد في الأرض وسفك الدماء كضرورة بشرية للحياة على الأرض؛ هنا بالذات تعرف الملائكة سر الغيب الذي خفي عليها، وهنا سيباهي الله بهذا الإنسان ملائكته والجِنّة أجمعين.
أجل، إن للدين الإسلامي خطة مُحكمة لتغيير العالم وإصلاحه والقضاء على الفساد والفتنة بجعل الحروب خيارًا مكلفًا جدًّا، وإجبار الآخرين على مهادنة المسلمين والانفتاح عليهم، ليكون ذلك أفضل سبيل لنشر الدين الحق في كل العالم.
لا شك أن إقامة المجتمع على قيمة التراحم والتواصل والتلاحم لهي من أصعب الأمور، مقارنة بالجهاد والقتال الذي هو في الواقع مسألة غريزية انفعالية تجاه غزو الأعداء وجرائمهم. فالقائد الذي يتمكن من ترسيخ قيمة التلاحم الداخلي في المجتمع، لهو أقدر من قائد يسوق أتباعه لمواجهة الأعداء الذين أمعنوا فسادًا وعدوانًا وأخرجوا الناس من أبنائهم وديارهم.
[1]. تحف العقول، ص219.
هل يستغني العارف عن مراعاة الشريعة؟
هل يمكن للسالك إلى الله أن يستغني عن مراعاة الشريعة إذا وصل إلى مقام عالٍ من السلوك؟ أي أصبح من العرفاء
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...