حين نعيش لأجل الماضي
كيف نفقد معنى الحياة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب إشراقات الروح
بعض الناس يعيشون لأجل أن يصنعوا ذكريات للمستقبل. ما يقومون به من أعمال ومشاريع وأنشطة يفعلونه وهم يتصورون كيف سينظرون إليه بعد مدة طويلة من الزمن. المستقبل منظور عندهم دائمًا، لكن، بعين الماضي!
هناك قسم من البشر يعيش ليصنع أمورًا جميلة في حياته لكن فقط لأجل أن يتذكر حين يمر الوقت أو يبلغ آخر العمر أنّه عاش في الدنيا بشكل جيد. كلما نظر إلى الغد الآتي تصور نفسه وهو يجلس ويستحضر ما قام به وفعله. لعل ذلك ما يمنحه الشعور بأنّ حياته لها معنى. هؤلاء يعيشون للمستقبل دومًا، لكن هذا المستقبل عندهم ليس سوى الماضي المستحضر. كأن المستقبل هو موتٌ لا حياة فيه سوى ذكريات الماضي. ثم يأتي التصوير الفوتوغرافي ليعطيهم قدرة أكبر على تحقيق هذه الأمنية؛ فإذا ذهبوا في سياحة إلى بلدٍ أو زاروا متحفًا أو معلمًا أثريًّا، يقضون وقتًا مهمًّا في تصوير المشاهد المختلفة ويركزون على التقاط صور ستكون خير عون لهم على التذكُّر. يقال إنّ هؤلاء لا يستطيعون أن يعيشوا اللحظة والحاضر. ومن لا يقدر على ذلك لن يكون له سوى شيء قليل ليتذكره.
تمّ استطلاع مجموعة من السياح الذين زاروا أحد المتاحف، وسُمح لمجموعة منهم بالتقاط الصور للرسومات والمنحوتات والأعمال الفنية الموجودة فيه. بعد خروجهم من المتحف، تم طرح مجموعة من الأسئلة المتشابهة على المجموعتين. فتبيّن أنّ الفئة التي سُمح لها بالتقاط الصور كانت أقل انتباهًا للكثير من التفاصيل الموجودة في تلك الأعمال الفنية!
هكذا يُصبح العيش من أجل الماضي سببًا لتضييع هذا الماضي أيضًا. لن يكون في المستقبل لمن يعيش مثل هذه الحياة سوى ذكريات ضعيفة يصعب عليه تذكُّرها. حين يبقى الإنسان أسير الزمان لن يكون له من الزمان سوى شيء ضئيل جدًا.
يقلقنا ألّا نعيش الحياة بكل ما فيها من فرص. الإنسان الذكي يعلم أنّ الحياة فرصة لا تتكرر، ولذلك يريد أن يعيشها إلى أقصى حد. هذه سمة إنسان العصر الذي صار يفكر بالحياة ككل. لكن تلك الطريقة من العيش لا تختلف كثيرًا عن عيش من كان في العصور الماضية وهو لا يدري لماذا يعيش.
التحرُّر من الزمان هو الطريقة الوحيدة لكي نغتنم هذه الحياة إلى أقصى حد. يقال إنّ الذي يعتق نفسه من إطار الزمان يتّسع زمانه ويصبح ممتدًّا في الطول والعرض أيضًا. قد تراه عاش ستين سنة، لكن كل سنة منها كانت بمثابة عشرات السنين مقارنةً بغيره. لا نحتاج إلى العيش مع الذكريات، بل نحتاج إلى جعل كل لحظة آتية فرصة جديدة.
إن ربطنا حياتنا واستمتاعنا بقوانا الجسدية، وتصورنا أنّنا سنفقد الكثير منها مع مرور الأيام، فهذا يعني أنّنا مُقبلون على خسارة الحياة شيئًا فشيئًا. لعل هذا هو الذي يحمل أولئك على صناعة الذكريات الجميلة. يريدون أن يبقوا على قواهم وهم يعلمون أنّ هذا الأمر مستحيل، فلا بأس أن يحفظوها بالذكريات!
لكنّ الله تعالى لم يخلق الإنسان لكي ينتقل من حالة الضعف إلى القوة ثم إلى الضعف لكي يتسافل بعدها ويفقد معنى الحياة. قيل إنّ الشيبة الموجودة في هذه الآية: {اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَليمُ الْقَدير}، تُشير إلى الوقار والوقار هو الثقل. يُفترض أن يزداد المرء كلما تقدم في العمر ثقلًا وبذلك يزداد استمتاعًا بالحياة شرط أن لا يكون قد بنى هذه الحياة على المتع الجسمانية.
إنّ ضعف قوى البدن يُفترض أن يمثل فرصة إضافية لكي ينتبه إلى الأمور الروحية. إذا كانت أرواحنا محبوسة في أجسادنا تسير معها حيثما سارت، فإنّ ضعف القوى البدنية يُفترض أن يشكل فرصةً لتحرُّر الأرواح وانعتاقها. ولا شيء يمكن أن يضاهي متعة الروح.
ها نحن نشبه الحيوانات في الإدراكات الحسية، ولكن هل تستمتع البهائم والأنعام بجمال المنظر؟ لماذا؟ لأنّ ما تدركه بحواسها لا يجد روحًا تستقبله، بخلاف الإنسان. الروح هي التي تستمتع بالجمال والمعنى. ومع تقادم العمر يُفترض أن تزداد الروح تألقًا فيزيد استمتاعنا.
قيدٌ آخر للروح هو الفكر وهو لا يقل خطورة عن قيد البدن. رغم أنّ عالم الأفكار متصل بعالم الروح والمعنى، لكن إذا لم نعرف كيف نتحرر من قيوده يأسرنا بشدة. هذا ما يشعر به من قيد عقله بالفكر، فإذا كبر في العمر لم يجد وسيلةً للتكامل الفكري. الفكر بقدر ما هو جسرٌ رائع يُعد منزلًا سيئًا. يجب أن نتجاوز الفكر إلى عالم الروح.
علامة انحباسنا في قيد الفكر أنّنا نلبث على التفكر في الأمر نفسه. لنفترض أنّك من أهل الفكر في معرفة الله وقد استطاع فكرك أن يتوصل إلى جميع الأدلة والبراهين المطروحة في مجال إثبات التوحيد. هذا أمرٌ رائع، لكنّه يصبح مانعًا من إدراك حقيقة التوحيد والتحقق به إن اعتبرته آخر المطاف.
كل واحد منّا قد ينسج لمستقبله ذكريات من نوعٍ خاص. هناك من ينسج ذكريات الرحلات والأسفار؛ وهناك من ينسج ذكريات الخيالات والأفكار؛ لكن آخر العمر أو المستقبل يُفترض أن يكون فرصتنا الأساسية لتجربة من نوعٍ خاص لا تحصل إلا بعد التحرر من الماضي مهما كان جميلًا.
كيف ننال أرقى الحالات الروحية
ليست الروحانيّة مجرّد مشاعر عابرة، بل هي حقيقة تكوينيّة وجودية يمكن للإنسان إدراكها والاتّحاد معها. وإذا أردنا أن نقرّب المعنى فلنتصوّر هذا العالم المادّي بكل ما فيه من ظواهر حياتية، ثمّ نكثّفه بإلغاء الفراغات الواقعة بين ذرّاته؛ فهنا يُقال بأنّ هذا الكون كلّه يمكن أن يتكثّف في علبة كبريت واحدة.
الصلاة محور الحياة الروحية... كيف نجعل حياتنا صلاة
الصلاة في الحقيقة ثناء على الله تعالى من العبد. وهي إحدى أهم أبرز لوازم الإنسانية وخصائصها وحدودها. ولهذا لا يتنكّب عنها إلّا من خرج عن هذا الحدّ ورضي لنفسه بالبهيمية. ففي بعض الأحاديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: "ألا يخافنّ أحدكم إذا حوّل وجهه عن الصلاة أن يحوّل الله وجهه إلى وجه حمار؟"
بحثًا عن التجرّد.. بحثًا عن الروح
التجرد ليس بالأمر الذي ينبغي أن نؤمن به بقدر ما ينبغي أن نعيشه. وحين يتمكن المؤمنون بالمجردات والتجرد من تفعيل قواهم الروحية المجردة فسوف يتفوقون بسهولة على الماديين ويهزمونهم كما ينبغي في ساحة الحياة والواقع وليس في عالم النقاش والجدال.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...