كيف نُنقذ أبناءنا من أسوأ الشرور
حين تكون الغيرة مدمرة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب تربية الأولاد وأولادنا
"الأدب خير ميراث"[1] [الإمام علي(ع)]
كآباء وأمهات قد يغلب علينا الاهتمام بأوضاع أبنائنا المادية حين نتعامل معهم بنهج الانفعال. لا يُلام من كانت أولى لحظات ارتباطه بابنه في تأمين حاجاته المادية. فالأبناء بحكم احتياجهم الأولي المبرم إلى الغذاء، يفرضون علينا أن نولي هذه الجانب اهتمامًا فائقًا. إنّها مسألة حياة أو موت ولا يمكن التساهل بشأنها. وتمر المرحلة الأولى من أعمار أطفالنا وهذا الجانب طاغٍ على الاهتمام والرعاية؛ ويكبر الأبناء ويعبرون هذه المرحلة وقد لا نشعر بانبعاث حاجات أولى وقضايا أهم.
الانفعالية في التربية تعني أن يكون الأبناء هم من يحدّد مسارها وأولوياتها. والفاعلية تعني أن ينطلق الآباء من منظومة قيمية ورؤية كونية تُحدد الأولويات وترسم الغايات على قاعدة عقائدية متينة. ولا شك بأنّ هذه المنظومة ستُرشدنا إلى أنّ البعد الأخلاقي والمعنوي في شخصية أولادنا هو الأولى والأهم من كل شيء.. فلو فرضنا حصول تزاحم بين الأخلاق والبقاء في الدنيا، فلا ينبغي أن نتردّد في التضحية بالنفس من أجل المبادئ الأخلاقية. نادرًا ما يحدث هذا التعارض، لكن يجب أن يبقى حاضرًا في الذهن والقلب، لأنّه يوجه مسار حياتنا ويُضفي عليها زخمًا هي بأمس الحاجة إليه في جميع منعطفاتها ومواقفها الصعبة.
وجود مثل هذه البوصلة يجعلنا متمسكين بالأخلاق الفاضلة التي ترشد حياتنا وإن لم نشعر بالجوع. وهذا الالتزام هو الذي يدفعنا إلى القيام بكل ما هو صائب وحق وإلى اجتناب الباطل. هنا نختلف كمؤمنين بالله واليوم الآخر عن غير المؤمنين؛ وهذا الاختلاف أمر نعتز به كثيرًا.
لا ينبغي أن ننسى أنّ من أهم تجليات هذا الالتزام الأخلاقي هو ما يظهر في تعاملنا مع أبنائنا. يجب أن يرانا أولادنا صادقين في ادعاءاتنا الإيمانية؛ وهذا يعني أن نكون نموذجًا صادقًا لحماية القيم والدفاع عنها. صحيح أنّهم سيشكرون شدة عنايتنا بتأمين حاجاتهم المادية، لكن إذا غبنا عنهم، فإنّ أهم ما يُفترض أن يتذكّروه منّا هو هذا الالتزام الأخلاقي وصوته الصادح.
ما يعنيه هذا الالتزام هو أن نتمكّن من مناقشة قضية القيم معهم بكل أريحية وسلاسة. لا يُفترض أن يكون التوجيه الأخلاقي أمرًا مزعجًا لهم، بحيث نضطر لاحقًا إلى الاعتذار لهم عن تقصيرنا بشأن حاجاتهم المادية. قد نرحل عن هذه الدنيا ولم نورث أبناءنا درهمًا واحدًا، لكن يجب أن يدرك هؤلاء الأبناء أن ما ورثوه منّا من آداب وقيم هو الميراث الأحلى.
إنّ راحة الآباء في مناقشة القضايا الأخلاقية مع أبنائهم تعني أنّهم وصلوا إلى مستوى يتمكنون معه من تجاوز مشكلة ضغط الطباع ومقتضيات الطبيعة بسهولة. وهذا ما يتطلّب تربية أبنائنا على الزهد في الدنيا.
الطباع والطبيعة تعبيران عن أمور تتولد من حاجات البدن. وترك هذه الأمور على رسلها وإطلاق مشتهيات الطبيعة دون ضبط يُنشئ شهوات وهمية في النفس مثل حب الجاه والتعلُّق بالمكانة الاجتماعية.
حين تترسخ قدم الإنسان في الطبيعة ينتقل إلى مرحلة الوهم. وحين يشبع ويطغى في الحاجات المادية تتولد عنده الحاجات الوهمية.
فحين يشعر أبناؤنا بأنّنا نولي الحاجات الطبيعية أولوية قصوى، سيتولد لديهم ذلك الشعور بأهمية الحاجات الوهمية. كل ذلك يرجع إلى أن إيلاء هذه الحاجات الطبيعة هذا المستوى من الاهتمام يدل على نوع من الخوف والقلق وسوء الظن بالله تعالى. أجل، يُفترض أن نعتبر أنفسنا مسؤولين بالكامل عن حاجات أبنائنا، لكن لا من جهة تأمينها، بل من باب حسن إدارتها. فقوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}،[2] تأكيد على أنّه تعالى قد تكفل بكل ما يحتاج إليه أبناؤنا حقًّا؛ مما يعني أنّنا مسؤولون عن تعليم أبنائنا كيفية التعامل الصحيح مع هذه الحاجات، وعلى رأس ذلك الإيمان العميق بأنّ الله قد تكفل برزقهم وتأمين حاجاتهم الطبيعية.
أمّا إذا شاهد أبناؤنا هذا الاستقلال فينا (مقابل الله)، وما يصاحبه عادة من قلق تجاه الرزق وتأمين مستلزمات العيش، فسوف يكون للدنيا في أعينهم قيمة إضافية تستدعي منهم احترامها وتوقيرها وإجلالها. وماذا يعني ذلك؟ يعني أنّهم سيطلبون جاهها والمنزلة فيها، كأنواع الرئاسات والاعتبارات الاجتماعية والوجاهات التي تتجلى في صورٍ كثيرة، منها ما لا يخطر على البال.
حين يُصبح الزواج في نظرنا عاملًا لإضفاء المكانة الاجتماعية، فإنّنا سنتطلّع إليه كحاجة ملحة بمستوى الحياة والموت؛ ومع أي تهديد يتعرض له هذا الزواج (سواء كنا متزوجين أو لا) سنشعر بأنّنا نتعرض لخسارةٍ فادحة. هنا سنتمسّك بالزواج إلى الدرجة التي تدفعنا لارتكاب حماقات وأخطاء كبرى، وندافع عنه بكل قوة حتى لو عنى ذلك التخلي عن مبادئنا الأخلاقية. هذا ما يفسر السلوكيات اللاأخلاقية لبعض المتدينين المؤمنين بالمنظومة الأخلاقية الإسلامية في مشاكلهم الزوجية.
فحين نبني زواجنا على قاعدة تحصيل المكانة والمنزلة الاجتماعية والشأنية في أعين الناس، وتكون هذه المنزلة من الأولوية بحيث تساوي الحياة والموت والمصير، ثم يتعرّض زواجنا هذا لتهديدٍ ما، فقد نستشرس في الدفاع عنه حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن العقلانية فضلًا عن الأخلاق الفاضلة.
حين نجعل الزهد في الدنيا أولوية في التربية، فهذا يعني أن نربي أولادنا على رفض جميع الاعتبارات وتحقير كل أشكال الوجاهات بالقلب والتوجه. ويظهر أثر هذه التربية في عدم الاكتراث واللامبالاة عند تعرض تلك الشؤون التي حصلنا عليها أو عرضت علينا لأي تهديد. وهذا ما يسمح لهم بهامش كبير من البصيرة والعقلانية في التعامل معها.
للزواج جانبٌ إلهي يجب حفظ قداسته، وللرئاسة الاجتماعية إن كانت شرعية قيمة إلهية كبرى، لكن إن اقتضت المشيئة الإلهية أن نخسر زواجنا أو نُعزل عن منصبنا، فلا ينبغي أن نرى في ذلك خسارة حقيقية. الاعتبار فانٍ وزائل. هذا هو حال كل شأن دنيوي، ففي الوقت الذي قد يتطلّب منّا الاعتناء به كثيرًا وحفظه وصونه ورعاية متطلباته، فإنّنا لا نبالي أبدًا إذا ما كانت الحكمة والمصلحة في فقده وخسارته.
إنّ من أسوأ الشرور وأضرّها على دين المرء ومصيره وشخصيته هي تلك التي ترتبط بالجانب الأخلاقي المعنوي، مثل حب الدنيا والتعلق بما فيها من جاهٍ واعتبار. ويجب أن نحذّر أبناءنا من أهم خطرين يتهدّدانهم، وهما الغيرة للبنات وحب الجاه للأبناء. وبالتأمل الوافي سنجد أنّ هذين الخطرين الكبيرين يرجعان إلى حب الدنيا.
فلا تغار المرأة حين تغار إلا بسبب جاه أو مكانة تشعر أنّها ستفقدها. وكأن جاه المرأة عمومًا هو في علاقتها بالرجل وما يمثله لها من مكانة اجتماعية. وكأنّ جاه الرجل عمومًا في علاقته بالمجتمع بما يمثله له من اعتبار وقيمة. ولا يختلف الأمر عند الله من حيث العدد. فلو كان الترؤس والاستعلاء على شخص واحد لكفى ذلك في وجود هذا المرض المهلك.
ما الذي نحتاجه للنجاح في تربية أبنائنا على الزهد وعدم الاعتناء بالوجاهات والاعتبارات الدنيوية؟
إنّ أول ما تحتاجه هذه التربية لتنجح هو أن يكون هناك وجاهة أعلى وأسمى تتحول إلى مثل أعلى وغاية سامية في قلوبهم. "اللهم اجعلني عندك وجيهًا بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة".
مع فقدان هذا النوع من المقام والاعتبار الأُخروي والإلهي، يبقى للوجاهات الدنيوية قيمة عظيمة وحلاوة خاصة في النفوس قد لا تنفع معها أنواع المواعظ والنصائح. فلا يبحث المرء عن اعتبار في أعين الناس إلا حين يعمى عن كل ما هو كامل وجميل وعظيم في الحقيقة. وهذا ما يتشكل جراء الشعور بالتهديد والخوف من شؤون الدنيا، والذي يضغط بدوره على النفس فيجعلها تتمسك بها أشد التمسك. ويتولد من هذا التمسك والتعلق تلك العقد التي تترسخ في النفس كعقدة الحقارة، التي تدفع صاحبها إلى التعلق بأي شيء يمكن أن يُشعره بأنّه مهم وذو قيمة. ومن الطبيعي أن يكون للمجتمع وأعرافه أبلغ الأثر في تحديد ما هو مهم وذو قيمة، فيكون الزواج بالنسبة للمرأة أعلى شيء وتكون الرئاسات للرجل أعظم شيء.
إنّ مساعدتنا لأبنائنا على أن لا يبتلوا بعقدة الحقارة التي تجرهم إلى اعتناق هذه الوجاهات وما ينجم عنها من أمراض نفسية مهلكة، يتطلب منّا التمهيد الكافي لمناقشة هذه الأمور بكل عمق مطلوب. فلا شيء يمكن أن يكون مؤثرًا في عدم الابتلاء بالعقد النفسية أو منع استفحالها مثل وضوحها وجلائها في المراحل العمرية التي تكون الشخصية عندها في طور التشكل.
ما يجعل المشكلة عقدة هو عجز الأبناء عن التعامل مع الضغوط التي يواجهونها جراء أنواع الحرمان والنقص الذي يعانون منه، وإن كان متوهمًا. الحرمان غير المفهوم يوجه الإنسان نحو التعلق بكل ما يتصوره عاملًا للخلاص من الحرمان. وهذا ما يفسر وجود مرض التعلق عند الفتيات اللواتي يعانين من نقص واضح في معدل الجمال بحسب الاعتبار الاجتماعي. حيث يشتد الاحتياج إلى الآخر كتعويض عن هذا النقص، وما يؤدي إليه من دوامة قد لا تخرج منها طوال حياتها.
إن تعلُّق الرجال بالمناصب والوجاهات الرئاسية وأمثالها قد يعود إلى ذلك الضغط الذي تعرضوا له في مرحلة الطفولة جراء شعورهم بالنقص على مستوى بعض القدرات الجسمانية، حيث تصبح تلك الأمور بنظرهم تعويضًا وتلبية لعقدة ترسخت.
لو استطعنا أن نناقش مثل هذه الحقائق مع أبنائنا في الوقت المناسب، مع ما يعنيه ذلك من تفسير دقيق لهذه الضغوط الناشئة من أنواع الحرمان والنقص، فسوف نتمكن من منع تشكُّل عقد ينتج عنها مثل مرض الغيرة ومرض حب الجاه اللذين يتحملان المسؤولية الكاملة عن أكثر تعاسات البشر.
[1]. عيون الحكم والمواعظ، ص69.
[2]. سورة الإسراء، الآية 31.
تربية الأولاد
هذا الكتاب عرض مفصل لأهم مبادئ التربية وأصولها التي تغوص إلى أعماق النفس البشرية وتستكشف قواها وإمكاناتها العظيمة وحاجاتها الأساسية، دون أن يغفل النصائح العملية والتطبيقات المفيدة.إنه دليل مرشد لكل من يؤمن بهذه القضية كمسؤولية كبرى يجب أن يؤدي أمانتها إلى الله تعالى. تربية الأولادالكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتبالطبعة الأولى، 2019حجم الكتاب: 17*17عدد الصفحات: 396نوع الغلاف: ورقيISBN: 978-614-474-082-8للحصول على الكتاب خارج لبنان، يمكن طلبه عبر جملون على الرابط: https://jamalon.com/ar/catalog/product/view/id/37164097او عبر موقع النيل والفرات على الرابط:https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb321957-312703&search=books
أولادنا..أسئلة حسّاسة، تحدّيات معاصرة
إنّ الهدف الأول .. هو مساعدة المربين على تبيّن المبادئ الأساسية التي تختفي وراء المعالجات المختلفة للمشاكل والأمور التي فرضتها الحياة المعاصرة.. وقد أردنا أن يكون هذا العرض نموذجًا ووسيلة لتعميق مقاربة هذه القضايا من زاوية المبادئ والأصول بدل الاعتباطية والسطحية. وكل رجائنا أن نكون قد ساهمنا في تفعيل الخطاب التربويّ بالاتّجاه الصحيح. الكتاب: أولادناالكاتب: السيد عباس نورالدينبيت الكاتب للطباعة والنشر والتوزيعالطبعة الأولى، 2019الحجم: 17*17عدد الصفحات: 396isbn: 978-614-474-083-5يمكن الحصول على الكتاب خارج لبنان عبر موقعي النيل والفرات: https://www.neelwafurat.com/locate.aspx?search=books&entry=بيت%20الكاتب&Mode=0وموقع جملون:https://jamalon.com/ar/catalogsearch/result/?q=مركز+باء
لماذا نفشل في تربية أبنائنا دينيًّا؟
ماذا لو أدّت تربيتنا وتصرّفاتنا (وبالخصوص عجزنا عن تفهُّم ظروف أبنائنا) إلى تمرُّد أبنائنا علينا ونحن ندعوهم إلى العفّة في العلاقات والمظهر المحتشم والاهتمام بالصلاة والطهارة والوضوء.
ترسيخ قيمة الحكمة... بين الاعتداد بالنفس وتحمل المسؤولية يوجد خط رفيع
نريد أن ينشا أولادنا على تحمّل المسؤولية، سواء تجاه أنفسهم أو تجاه من ينضوي تحت جناحهم؛ لكنّنا نخشى أن يتحوّل هذا الشعور إلى نوع من الاعتداد الشديد بالنفس، الذي تزول معه الحاجة إلى هداية الآخرين وطلب مساعدتهم. فمن منّا لا يحتاج إلى إنسان آخر يعينه ويستأنس برأيه ويهتدي بخبرته، خصوصًا إذا كان حكيمًا حقًا ولديه خبرة واسعة.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...