
حين يكون فارق القوة كبيرًا
نحتاج إلى مراجعة قواعد المواجهة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب بحثُا عن حضارة جديدة
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلا قَليلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبيتًا * وَإِذًا لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظيما * وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطًا مُسْتَقيمًا}.[1]
نتعلّم من التاريخ والتجارب أمرًا قد يكون صادمًا بالنسبة للبعض، وهو أن سنّة الله القائلة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَليلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرَةً بِإِذْنِ اللَّه}،[2] لا تعني أبدًا أنّ على كل فئة قليلة أن تتوكل على الله وتواجه الفئة الكثيرة دون خوف أو اكتراث لما يحدث. بعض المواجهات قد تنتهي بهزيمة نكراء حيث لا يبقى من الفئة القليلة باقية، ولا تحقق هذه الفئة ما تريده بواسطة الهزيمة أو بعدها.
لا ينبغي أن نعتبر كل مواجهة بين فئة قليلة وفئة كثيرة كربلاء، حتى لو كان الشعار "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء". لنهضة الإمام الحسين عليه السلام عناصرها الذاتية التي يُفترض أن تُدرس بنحوٍ وافٍ قبل وضعها في إطارٍ كلّي يمكن أن ينطبق على مصاديق هذا النوع من المواجهة غير المتكافئة.
إذا لم ينجم عن المواجهة انتصار محقق سواء بالقضاء على العدو أو هزيمته أو تحقيق إنجازٍ نوعي كما حصل في عاشوراء، وهو حفظ الدين وترسيخ قيمة القيام ضد الظالمين في ثقافة المجتمع، فإنّ الفئة القليلة لا تكون مصيبة في مواجهتها للفئة الكثيرة، بالطبع فيما لو امتلكت هذه الفئة خيارات أخرى.
مما لا شك فيه أنّ المواجهة التي تفرضها الفئة الكثيرة ولا يمكن التهرب منها إلا بخسارة الدين أمر لا بد منه؛ ويكون المقتولون فيها بحكم الشهداء، إن لم يقصّروا في المقدمات التي أوصلتهم إلى هذه المواجهة.
لنفترض أنّ هناك وضعًا ما تفاجأت فيه فئة قليلة ضعيفة بفئة كثيرة تفوقها قوة بدرجات تزيد على عشرة أضعاف، ولم يكن من بدّ سوى القتل أو ضياع الدين والكفر بالله العظيم. في مثل هذه الحالة، لا نشك بضرورة المواجهة بحكم الدين والعقل والوجدان، لأنّ الخيار يدور بين السلة (السيف) والذلة (الكفر).
لكن علينا أن نلتفت إلى أنّ معظم حوادث المواجهة بين هذين النوعين من الفئات لا تكون فجائية، بل تسبقها مراحل عديدة. وفي هذه المراحل غالبًا ما يكون بإمكان أفراد الفئة القليلة أن يقوموا ببعض المقدمات التي تجنبهم الوقوع بين ذينك الخيارين. ففي مثل هذه الحالة يمكن أن نعتبر التقصير بتأمين هذه المقدمات بمثابة من يختار الاضطرار: واجبه العمل بحكم الاضطرار لكنّه يُحاسب حساب المختار. كمثل الذي يعلم أنّه إذا سلك أحد هذه الطرق سيُبتلى بالعطش والجوع المميت وسيضطر إلى شرب الخمر أو أكل الميتة للحفاظ على حياته. وبعدها سلك هذا الطريق باختياره وأوقع نفسه بحالة العطش المهلك، فإنّ حكمه سيكون حكم المضطر وحسابه حساب المختار.
كثيرة هي المواجهات التي تحدث بين الجماعات البشرية وتكون ناشئة عن إهمال وتقصير فادح عند جماعة الحق. كوننا مع الحق لا يعني أنّنا غير مقصرين أو لا يمكن أن نهمِل. بل الوقائع تثبت أنّ الإهمال والتقصير هو المسؤول الأول عن تحوُّل أهل الحق إلى جماعات ضعيفة مقابل الكفار الأقوياء.
في وضعنا نحن، هناك مئات السنين من الغفلة والتساهل والضياع والجهل وظلم الأبرار والإعراض عن العلماء الصالحين، والتي أدت بنا إلى أن يكون الفارق بيننا وبين أعدائنا بهذا الحجم الأسطوري.
ربما كان يُفترض قبل أي شيء أن نتوب من ذنب القرون الماضية توبةً نصوحًا تبدأ بفهمنا لما جرى، لأنّ التوبة من الذنب شرطها الأول معرفة أنّه ذنب، ومن ثم الندم عليه، ومن ثم السعي للإصلاح. وفي أوضاعنا كمسلمين، فإنّ معرفتنا بهذا التاريخ، سيكون لها أكبر الأثر في إعادتنا إلى الجادة الصحيحة للتقدم الحضاري والازدهار الواقعي.
حين يكون فارق القوة هائلًا ولا نكون واحدًا مقابل عشرة، بل نكون بعد حساب جميع عوامل القدرة والإمكانات واحدًا مقابل مئات أو آلاف، فإنّ الأمر لن يكون دائرًا بين المواجهة المباشرة (وإن كان يحق لنا أن نستخدم التهويل والتهديد إن كان رادعًا)، وبين الاستسلام وإظهار الضعف للعدو.. يوجد حل آخر يبدأ من البحث عن طريقة أخرى لهزيمة هذا العدو بغير المواجهة.
إنّ من أسرار وجود الظالمين المتجبرين في هذا العالم مع امتلاكهم لهذه القدرات والإمكانات المهولة، هو أن يفكر أهل الحق بالطرق المناسبة للانتصار عليهم بدل أن يجعلوا أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما، وبدل أن يسلكوا طريقًا يؤدي بهم إلى الاختيار الحتمي بين اثنتين.
الذكاء والحكمة تقتضي أن يوسّع المرء من خياراته دومًا. وهذا ما يحتم عليه دراسة كل المجالات والفرص والطرق التي تؤدي إلى الانتصار على العدو. وهذا ما يقتضي أيضًا ألّا نحكم أنفسنا بخيار المواجهة فنراها حتمًا مقضيًّا، وإن كان الواجب طبعًا أن نعدّ لهم ما استطعنا من قوة. لكن الإعداد للإرهاب والإرعاب شيء، واتخاذ طريقة المواجهة نهجًا وحيدًا هو شيء آخر.
حين يكون فارق القدرة هائلًا، فهذا يعني أنّ على أهل الحق أن يبحثوا عن هذه الطريقة المختلفة، بدل أن يحملوا أنفسهم على المواجهة الاستشهادية. لا شك بأنّ مثل هذا الواقع يدل على وجود هذه الطريقة، لكن الذي اعتاد على النظر إلى الأمور من منظار واحد لن يرى سوى ما يريد، كمثل الذي لا يحمل سوى مطرقة فسوف يرى كل شيء مسامير.
ولا شك بأنّ أي شعب إن كان لا ينفع معه سوى القتال والمواجهة المباشرة والقتل والأسلوب العنيف، فإنّ قادته سيجدون أنفسهم مضطرين إلى استعمال هذا العنصر الإيجابي الوحيد لاستنهاضه حتى لو كانت كلفة هذه النهضة باهظة جدًّا. لكن من السابق لأوانه أن نحكم على هذا الشعب بمثل هذا الحكم ونحن لم نجرب الطرق الأخرى للاستنهاض. قد نكون بسبب عجزنا وضعفنا عن تأمين المقدمات اللازمة لاستنهاض هذا الشعب بغير طريق القتال الباهظ الكلفة، قد وصلنا إلى هذا النهج واعتمدناه خيارًا لا بديل عنه.
إنّ الطرق الأخرى التي تبدو للوهلة الأولى الأسهل والأيسر، تثبت الوقائع أنّها الأشد حزونة وصعوبة مقارنةً بالقتال والمواجهة العسكرية وأمثالها.
إذا سألنا أنفسنا من الناحية العقلية هل يمكن أن تتم هداية الظالمين أو التأثير على الطبقة الحاكمة بطريقة تجعلها تسلك سبيل الإصلاح رغم أنّها غارقة في الفساد إلى العظم؟ فالجواب هو نعم. ولكن عملية هداية الظالمين تتطلب من المهارات والتضحيات والجهود والمساعي ما يفوق بدرجات ودرجات ما يمكن بذله على صعيد الثورة والقيام ضدهم ومحاربتهم. هذا فن خاص وطريق صعب، وصعوبته ليست ناشئة إلا من أنّه لم يُسلك إلا من قبل الأنبياء وأوصيائهم.
المهارات والعلوم والقدرات والكفاءات والأعمال والمشاريع المطلوبة لتحقيق مثل هذا الإصلاح أو التغلب على عدو يفوقنا قدرة بدرجات هائلة، تتطلب منا الكثير الكثير من الجهد والتخطيط والتدبير والنزاهة والكمالات النفسية، كالفارق بين الجهاد العسكري الذي هو الجهاد الأصغر وجهاد النفس الذي عُدّ جهادًا أكبر.
لو أنّ الإمام الخميني قائد الثورة الإسلامية أراد أن يُقنع من يمكن أن يمشي معه ويؤيده بأنّ عليه أن يعدّ نفسه بطريقة تؤهله لخوض غمار السياسة والحكم والإدارة والتفوق في الفنون الجميلة والأدب والإعلام والاقتصاد، لما سلك معه إلا عددٌ قليل جدًّا. لكن الدعوة إلى الثورة والمواجهة والمعارضة السياسية والنزول إلى الشوارع هو أمرٌ أسهل على هذا النوع من الناس وأيسر!
يُقال إنّ مواجهة الأمور المخيفة هي أشد ما يمكن أن يُبتلى به المرء. لكن مع التأمُّل، يمكننا القول إنّ أشد شيء على البشر هو أن يعملوا ويكدحوا ويسعوا لبلوغ الكمالات ويُخططوا لتحقيق الأهداف الكبرى على المدى البعيد ويصابروا ويثابروا دون كلل.
تُثبت التجارب أنّ القتال والمواجهة المباشرة أسهل من السعي الحثيث البعيد المدى بحسب ما يراه الناس. ويمكن القول بأنّ العامل الأول الذي يقف وراء هذا التباين بين الطريقين يرجع إلى طبيعة الثقافة السائدة بين الناس؛ الثقافة التي لا يرى فيها أهلها سوى العنف أو الشدة أو الفعل المباشر والقصير المدى كطريقة للوصول إلى المآرب، هي غير الثقافة التي تؤمن بأنّ الوصول إلى الأهداف الكبرى يتطلب الحكمة والروية والتقية والصبر الطويل وتحمّل أذى الصديق قبل العدو.
أن تعمل على ترسيخ ثقافة الصبر والمصابرة والعمل الحثيث المتواصل البعيد المدى لهو من أشق الأعمال وأصعبها، ولهذا كان العاملون عليها أقل القليل.
"اللَّهُمَّ فَإِنْ كَانَ فِي الْمُصَابَرَةِ لِحَرَارَةِ الْمُعَانِ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَمَدِ [كَيْدِ] مَنْ يُشَاهَدُ مِنَ الْمُبَدِّلِينَ رِضًى لَكَ وَمَثُوبَةً مِنْكَ فَهَبْ لَنَا مَزِيدًا مِنَ التَّأْيِيدِ وَعَوْنًا مِنَ التَّسْدِيدِ إِلَى حِينِ نُفُوذِ مَشِيَّتِكَ".[3]
[1]. سورة النساء، الآيات 66-68.
[2]. سورة البقرة، الآية 249.
[3]. مهج الدعوات، ص 51.

على طريق بناء المجتمع التقدمي
المجتمع التقدّمي هو المجتمع الذي يتحرّك أبناؤه نحو قمم المجد والفضيلة والكمال.المجتمع التقدمي هو التعبير الأمثل عن استجابة الناس لدعوة الأنبياء الذين أرادوا أن يخرجوا البشرية من مستنقع الرذيلة والحيوانية والعبثية لإيصالها إلى أعلى مراتب الإنسانية والنور..فما هي سبل إقامة هذا المجتمع؟وما هي العقبات التي تقف في طريق تحقّقه؟ على طريق بناء المجتمع التقدّمي الكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتبحجم الكتاب: 14.5*21عدد الصفحات: 376الطبعة الأولى، 2019Isbn: 978-614-474-081-1السعر: 14$

أي مجتمع نريد؟
ما هي أهمية البحث عن المدينة الفاضلة؟ وكيف نرتقي بوعينا ومسؤوليتنا الاجتماعية؟ ما هي القضايا التي لا بد من دراستها وفهمها لرسم معالم الطريق الموصل إلى المجتمع الأمثل. وما هي العوائق الكبرى على هذا الطريق.

في البحث عن عوامل النصر المؤزر ماذا عن نفوذ شخصية القيادة؟
حين نؤمن بهذه المعادلة الإلهية {إن تنصروا الله ينصركم}.[1] يجب أن تتوجّه كل الجهود والطاقات والمشاريع والأعمال نحو نصر الله حتى نحصل على نصره المؤزّر. هل جلسنا وتباحثنا بعمق في شأن نصرة دين الله الذي هو أفضل مظهر لنصرة الله؟ حين تسيطر الاعتباطية والخفة على مثل هذا المبحث الكبير، فلا ينبغي أن نتوقع نزول ذلك الإلهام.

من أين تنشأ الشجاعة؟ وما الذي تدل عليه؟
من ينشأ على الشجاعة من المحتمل جدًّا أن يتصوّرها أمرًا ذاتيًّا فيه. وهنا قد يكون المقتل. لا شيء من كمالات الإنسان، حتى الموروث منها، ذاتي له.. هنا تكمن بعض مخاطر الأبحاث الأخلاقية غير التوحيدية حيث تُصوّر لنا أنّ الملكات الأخلاقية صفات ذاتية للإنسان.

لماذا تغيرت عقيدة الصهيوني بشأن عدد القتلى؟ هل نحن أمام نهاية وشيكة؟
تفاجأ الكثيرون في هذه الحرب الأخيرة كيف أنّ هذا العدو بات مستعدًّا لتحمل الكثير من الخسائر، ولم يعد يذكر أرقام القتلى مثيرًا القلق والرعب في أوساطه، كما كان ملحوظًا من قبل. فهل تغير هذا العدو وما الذي تغير فيه؟

كيف نصنع البأس ونزيده؟ ابحثوا عن منابعه ومصادره
في مواجهة الأعداء نحتاج إلى قوة الأنفس أكثر من قوة العتاد. العتاد المتطوّر بيد المرتعب يصبح وبالًا عليه وعلى من حوله. قالوا: "الخيل بخيّالها"؛ وصدقوا. هذه الشدة والبأس والشجاعة والثبات التي هي عناصر القوة النفسية قد تنبع من إدراك ما يمثله العدو من معاندة ومخالفة لله العزيز الجبار، ويكون هذا المدرِك محبًّا لله شديد الالتصاق به، عاشقًا لجماله، فيروعه ذلك الخلاف والعناد، ويشتد حنقه وغيظه إلى الدرجة التي لا يقدر معها على تحمُّل وجود هذا العدو لحظةً واحدة.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...