حول مهمة التاريخ والمؤرخين
الوعي التاريخي ودوره المحوري في تقوية الجماعة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب ماذا نستفيد من التاريخ؟
الانتماء إلى جماعة أمرٌ مفروض على معظم الناس (الإنسان مدني بالاضطرار).. تبديل هذا الانتماء ليس بالأمر السهل. رغم كل هذه الهجرات، فإنّ نسبة الذين يتمكنون من تغيير جماعتهم تبقى قليلة جدًّا مقارنة بالذين يبقون على انتمائهم.. مع تضييق قوانين الهجرة ومصاعب العيش في المهجر يصبح هذا التغيير أشد صعوبة وتعقيدًا. يجب على كل فرد أن يفكّر مرة أخرى في أهمية انتمائه إلى جماعته. هذا ما تساعدنا عليه هذه المقالة.
الرغبة بالهجرة وترك الجماعة يمثل أضعف مراتب الانتماء؛ هذا إن كان يصح إطلاق هذا العنوان على أصحابه من الأساس. غالبًا ما يتحول هؤلاء الراغبون بالهجرة إلى فرائس سهلة لمجتمعات تقوم بتدمير هويتهم والتسبب لهم باضطرابات عميقة الغور. والسبب هو أنّ معظم حالات الهجرة تفرض الاندماج بدل التعايش مع ثقافة مختلفة. وهذا ما يؤدي إلى تدمير ثم إعادة تشكيل هوية من جديد؛ الأمر الذي يكون باهظ الثمن.
خذ من باب المثال اضطرارك للتحدث بلغة أخرى غير لغتك الأم. يمثل هذا عنصر ضعف لأنّك ستعجز عن التعبير عن مرادك كما يفعل أهل اللغة. إيصال المراد هو الشيء الذي يعطيك القدرة للحصول على ما تريد بأيسر الطرق. البشر يتواصلون لتبادل المنافع، وكلما كان التواصل أفعل كان التبادل أكبر. هذا ما يفسر عجز المهاجرين عمومًا عن الانخراط في الحياة السياسية للمجتمعات التي يمكن أن تمنحهم الجنسية. يتم تجاوز هذا العجز عادة في الجيل اللاحق الذي يتولد في المهجر. أكثر الآباء الذين يهاجرون إلى مجتمعات ذات ثقافات مختلفة يضطرون للتنازل عن بعض عناصر قوتهم. تأكيدهم لأبنائهم على دراسة الطب والهندسة لأجل جبران هذا الضعف يزيد من الضعف. هذه مهن خدماتية، غالبًا ما لا يكون لها علاقة بإدارة المجتمع وتقرير مصيره.
الانتماء إلى جماعة تشكلت على مدى تاريخٍ مديد، يزوّد صاحب هذا الانتماء بعناصر من القوة هو بأمس الحاجة إليها، وذلك للتخفيف من أعباء الحياة والانطلاق في آفاقها. فلسفة وجود الجماعة والمجتمع هو التعاون والتآزر وتبادل المنافع بصورة سلسة. ولذلك فإن الذي يعرف قيمة الانتماء يقدر على الاستفادة منها إلى أقصى حد. هذا ما يتطلب وعيًا بالجماعة أو الوعي الجماعي. وأحد عناصر هذا الوعي وأكثرها أهمية هو ما ينبع من معرفة تاريخ الجماعة.
لكي نقوي الانتماء يجب أن نعمق هذا الوعي ونرفع منسوبه. وهذا ما يتطلب مطالعة معمقة للتاريخ. هنا يأتي دور المؤرخ الذي يقدر على تدوين وتقديم تاريخ الجماعة بعيدًا عن المبالغة والانتقاص. مهما كان تاريخ الجماعة، فإنّ الاطلاع عليه بصورة وافية يمثل عنصر قوة للجماعة نفسها. إذا كان هذا التاريخ مليئًا بالإخفاقات أو المواقف المشينة للأسلاف يُفترض أن يشكل ذلك أرضية مهمة للتغيير والتطور. دراسة الفشل لا تقل أهمية عن دراسة النجاح.
وكما تمثل الجماعة عنصر قوة لأفرادها، فإنّها تطلب منهم الحماية والدعم ليبقى عطاؤها. فأنت تعطي وتقدم لتأخذ وتستفيد. ولا يمكن أن تحمي جماعتك كما ينبغي إن لم تعرف المخاطر التي تهددها، ولا يمكنك أن تقدم لها إذا لم تعرف فلسفة وجودها. يمكن لعطائك وإسهاماتك في حالة الجهل بهذه الفلسفة أن تؤدي عكس الغرض.
الدول التي تتشكل بفعل قوى خارجية لها أسباب وجود (بحسب المصطلح الفرنسيraison d'état )، وما دامت هذه القوى الخارجية مسلَّطة عليها ولها التأثير الأكبر في تقرير مصيرها، تبقى هذه الدول وتستمر ما دام أبناؤها منسجمين مع فلسفة وجودها. والكثير من الدول قد تتشكل بفعل تراكم عوامل تاريخية غير مقصودة في وعي أبنائها. الدول التي تشكلت عن وعي وإرادة داخلية هي الأقوى.
غالبًا ما حدّد هؤلاء الواعون الأحرار سببًا لتشكيل دولتهم (كما يُقال بشأن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة)، لكن دراسة وافية لهذه المجتمعات تبين بُعد هذه الأسباب عن الحكمة الإلهية. وما دام الصراع جاريًا بين القوى المادية هنا، فالأقوى والأكثر والأغنى يغلب. حين يخبو أوار هذا الصراع تبدأ الدولة نفسها مرحلة التلاشي والتدمير الذاتي، لأنّ وجودها قسري مخالف للحكمة العامة.
إدراك الحكمة من وجود الدول مقصور على فهم هوية الجماعات التي أسستها وأقامتها. وحين تكون هذه الهوية مخالفة لحكمة الاجتماع البشري وإرادة الخالق من جعلنا شعوبًا وقبائل، فإنّها تحمل معها بذرة الفشل والضعف والانحلال.
يقع على عاتق الحكماء أن يكتشفوا فلسفة وجود جماعتهم في الزمان والمكان. وبعدها يجب أن يضخوا هذه الحكمة في أفرادها لكي تنسجم مساعيهم الاجتماعية مع إرادة الخالق، فيأتيهم المدد للبقاء والغلبة.
تشير الآية الشريفة: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ يُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَليم}،[1] إلى هذه الحقيقة.
فقد كانت فلسفة وجود المؤمنين وأحد أهم أسبابه أن يخرجوا للناس لينشروا الفضائل ويمنعوا الفساد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه}،[2] فإن تنكّبوا عن ذلك ونكصوا فإنّ الله سيستبدلهم، ولن يكونوا مورد محبته فلا ينالهم الدعم والمدد الإلهي، بل سيكلهم إلى عوامل التاريخ الثانوية (قوانين صراع القوى المادية حيث الأكثر والأكبر يغلب).
لنيل أكبر قدر من الفائدة يجب الانتماء إلى جماعة، ولكي يكون الانتماء اشتداديًّا حقيقيًّا يجب تحمُّل مسؤولية حماية الجماعة ودعمها. الوعي التاريخي يحدّد نوعية المخاطر وحجم التهديدات، والحكمة الاجتماعية تكشف عن دور الجماعة ومهمتها الإلهية.
لا يمكن تحديد المخاطر التي تحدق بالجماعة إلا عبر مطالعة دقيقة لتاريخها.. أينما شاهدت اختلافًا وسط جماعةٍ ما حول تحديد المخاطر التي تتهدّدها، يمكنك أن تُرجعه إلى الجهل بالتاريخ والاختلاف حوله. للتاريخ حقائقه الدامغة وعبره المستفيضة التي تقطع عذر المتعللين.
حتى أولئك الذين يشكلون خطرًا على الجماعة من الخارج فإنّ أشد أخطارهم يكمن في تمكُّنهم من تشكيل وعيٍ تاريخي مزيَّف عند أفراد هذه الجماعة، أو كي وعيهم التاريخي لكيلا يتمكنوا من استخراج العبر والدروس منه.
لا يوجد سلاح أمضى من القدرة على التفرُّد في قراءتك الخاصة لتاريخ جماعةٍ ما. يمكن لهذا التفرُّد أن يتلاعب بالعقول وحتى العقائد الراسخة. إنّ جزءًا مهمًّا من تشكُّل العقائد ورسوخها يرتبط بسياقاتها التاريخية. إذا استطعت أن يكون لك الكلمة الأخيرة في التاريخ فسوف يكون لك الغلبة حتمًا.
وعلى مدى العصور كان اهتمام الملوك منصبًّا على كتابة التاريخ بحسب مصالحهم، خصوصًا أولئك الذين اعتلوا العرش من خارج السياق. كانت كتابة التاريخ عاملًا مهمًّا لإضفاء الشرعية على الحكم، سواء كانت هذه الشرعية تتأتى من القومية أو الدين أو السلالة أو غيرها.
الذين يعملون على تقوية الانتماء الاجتماعي والذي يُعد أساسًا للكثير من الخيرات والبركات، والذين يشتغلون بالإعلام والتعليم والتغيير الثقافي والتعبئة العامة وتعميق الوعي وتقوية البصيرة، لا غنى لهم عن التاريخ لتحقيق كل هذه الأهداف.
يجهل الكثيرون أهمية التاريخ لأنّهم لم يجرّبوا قدراته. وإنّما عجزوا عن ذلك لأنّهم لم يعرفوه ولم يبدعوا في عرضه وتقديمه.
[1]. سورة المائدة، الآية 54.
[2]. سورة آل عمران، الآية 110.
كيف نستفيد من التاريخ؟
لقد كشفت كل الشواهد التاريخيّة عن حقيقة كبيرة وهي أنّ جميع الشعوب التي عانت من البؤس والحرمان والعبودية والذل والفقر، إنّما عانت من ذلك لأنّها لم تتّخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب. ولا يمكن لأي إنسان أو أي شعب أن يعرف الموقف المناسب للوقت إلّا بمعرفة مساره الزمنيّ وكيف تطوّر على مرّ الزمان، وهذا ما توفّره لنا دراسة التاريخ. كيف نستفيد من التاريخ؟ الكاتب: السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 14*21غلاف ورقي: 128 صفحةالطبعة الأولى، 2018مالسعر: 6$للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراؤه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:
بحثا عن حضارة جديدة
ماذا يعني أن يؤسس المسلمون حضارة جديدة؟ وما هي أسباب إخفاق حضارتهم الأولى؟ هل كانت قواعد البناء واهنة؟ أم أن المسلمين لم يتمكنوا من إشادة حضارتهم عليها؟ هل نشهد في عصرنا الحالي إمكانية بناء حضارة جديدة وسط كل هذه التحديات التي تمثلها القوى العظمى في العالم؟
من لا تاريخ له لا مستقبل له.. كيف تساهم الأعمال التأريخية بتقوية المجتمع؟
يكمن السر الأكبر الذي يقف وراء وحدة أي جماعة بشرية في وجود وعي مشترك عند أغلبية أفرادها تجاه هوية محدّدة. وغالبًا ما تُعرّف الهوية داخل المجتمعات نسبةً إلى الهويات الأخرى وبالنظر إلى الموقعية والمكانة على خارطة الأمم. في هذا المجال، سنجد أنّ لوعي هذه الجماعة التاريخيّ، ونظرة أبنائها إلى تشكّلهم كجماعة أو أمّة واحدة، والمسار الذي طووه على مدى الزمن، الدور الأكبر في تحديد أهم أبعاد هويتهم وخصائصها المميزة.
استحضار التاريخ في السير التكاملي.. كيف يمكن أن نبلغ أعلى مراتب القرب بواسطة النية والأمنية؟
تعالوا نسير في العالم بدءًا من التاريخ السحيق من آدم ونوح ونتوقف مليًّا عند مواقف الصدق الكبرى في الإسلام الأول مع رسول الله صلى الله عليه وآله والإمام عليّ عليه السلام، حيث تزخر حياتهما وسيرتهما بالمواقف التي تتصل اتّصالا عميقًا بواقعنا. فمن هذه المواقف نتزوّد لتغيير جوهرنا نحو الصلاح عسى أن يُلحقنا الله بالصالحين.
غياب التاريخ سبب أكبر مصائبنا... حين تنزل الأجيال الشابة لتقود الحراك!
تتكشف أهمية معرفة التاريخ وفهمه يومًا بعد يوم، ويتكشّف معها مستوى الهشاشة التي تعاني منها مناهج تعليم التاريخ في بلادنا. ما يجري اليوم من حراكات وانتفاضات تمتزج بالشغب والعنف، يعيدنا بسرعة إلى واحدة من أهم الانقلابات الشعبية التي قامت بها أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية في إيران، وذلك قبل حوالي ستين سنة، حين تمكنت ـ وبعددٍ قليل من عملائها لم يتجاوزوا الأحد عشر شخصًا ـ أن تطيح بحكومة شعبية أرادت أن تحقق الاستقلال لبلدها، وذلك باستخدام الأسلوب نفسه الذي يُعمل عليه في لبنان والعراق وإيران.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...