
حين يقول القائد: إذا تركتُ سوف تخرب!
ماذا تخفي هذه الجملة؟
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب القيادة الاستراتيجية
للقيادة دورٌ شديد الأهمية والحساسية، فهي التي ترسم مصير الجماعة والأتباع. في الواقع، تمثل القيادة إرادة الأتباع مجتمعةً، وتعصر توجهاتهم بصورة قابلة للتنفيذ. إنّها ابتكار العقل لحسن التدبير وإبداع الوجدان في التسيير. بدون القيادة لا أمل للجماعة، ولذلك كان القائد الفاجر أفضل من عدم وجود قائد، كما أشار الإمام علي عليه السلام: لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر.
عدم وجود قائد يعني الاضمحلال والزوال. قوة الجماعة تتمثل في إنتاج أفضل قائد واتّباعه بأفضل طريقة.
لكن، لماذا تصل بعض الجماعات إلى حالة من العجز عن إنتاج القادة المميزين حتى يُقال إنّ وضعها ومآل أمورها إلى الخراب فيما إذا مات القائد أو قُتل؟
إنّ وجود قائدٍ عظيم بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ يدل على وجود إمكانات وقابليات عظيمة في قومه. هل يمكن أن يُقال إنّ بعض القادة العظماء يقتلون هذه القابليات من خلال أدائهم؟ لنفترض أنّ هناك شخصًا تحوّل إلى قائدٍ استثنائي بحيث صار يُقال إنّ هذا القائد لا يمكن أن نجد له مثيلًا ولو بعد مئات السنين، وأنّ الله قد خلقه وكسر القالب من بعده! فما هو المقصود من هذا الكلام؟
هذا يعني أنّ القائد هنا ليس صنيعة الجماعة ولا يمثل القابليات المودعة فيها حين تتفعّل، بل هو كصنيعة السماء للأنبياء عليهم السلام!
أجل، الأنبياء لا يمكن تقليدهم ولا يمكن للبشر أن ينتجوهم. لو اجتمع الخلق كلهم على أن يصنعوا نبيًّا واحدًا لما استطاعوا؛ ذلك لأنّ النبي أو وصيّه الإلهي يكون صنيعة الله، كما قال الإمام علي عليه السلام في ذكر آل محمد عليهم السلام: "نحن صنائع ربنا".
لكن هذا النوع من القيادة مرتبطٌ بدورٍ خاص جدًّا، يتعلّق بالوحي والرسالة الإلهية وتبليغ كلمة الله ودينه. وهذا شيءٌ يختلف عن القيادة الاجتماعية التي تتشكل في بيئة الثقافة والإمكانات والقابليات الذاتية للمجتمع. كل ما علينا هنا هو أن نطّلع على كيفية تحويل كل هذه الإمكانات المتاحة والكامنة إلى شخصيات قيادية. وهنا يكمن الفن الأعلى لأي مجتمع أو جماعة؛ الأمر الذي يتطلب ابتكار آليات ذكية تتجلى فيما نعبّر عنه بالمجال الحيوي لحركة العاملين المجاهدين المصلحين.
المجال الحيوي يعني وضع جميع الإمكانات على طريق حركة الناس الاجتماعية السياسية لكي يتمكنوا من تسخيرها في سبيل تحقيق الأهداف. أي سدّ أو حرمان أو تضييق على هذه الإمكانات يجعل هذه الحركة شاقة أو بطيئة مما يعطّل عملية إنتاج القادة أو يصعّبها.
على سبيل المثال، نطرح هنا ما يمكن أن يكون الأكثر حراجة، وهو ما يرتبط بتجربة القادة السابقين. إن كان القائد الحالي يبخل في نقل تجربته وما حوته من حقائق ومعارف ومعلومات هي غاية في الأهمية والتأثير، فلا ينبغي أن نتوقع بروز قادة بمستواه من بعده.
لقد تمتع هذا القائد بهذه المعلومات والمصادر بفضل تنقّله وارتقائه في سلّم القيادة. لكنّه إذا قام بسدّ الباب وراءه، فسوف تتباطأ عملية إنتاج القادة الذين يُفترض أن يخلفوه. تدرك الشركات العريقة مدى أهمية توافر المعلومات للجميع وضرورة تسهيل الوصول إليها. ليس غريبًا أن يُقال إن أحد أهم عوامل التقدُّم العلمي والتقني والإداري في المجتمعات الحديثة يرجع إلى هذه النقطة بالتحديد.
والعنصر الثاني هنا هو ما يرتبط بوجود آليات إدارية قوية لمعاونة القائد في عمله؛ هذه الآليات التي يُفترض أن تؤدي إلى نشاط بارز في عمليات التفويض التي تحفز الجميع لخوض التجارب الدقيقة واللازمة للارتقاء في سلّم القيادة.
القائد الذي لا يوصد الباب وراءه هو الذي يؤمن بإنتاج القادة، ويعتبر ذلك جزءًا أساسيًّا من عمله. فبدل أن يسعى لتأمين خليفةٍ واحد له، تراه يعمل على صناعة عددٍ كبيرٍ من المستعدين لخلافته. إنه أشبه بمصنع للقادة. ولا شيء يمكن أن يتقدم بالمجتمع مثل وجود عددٍ كبير من الشخصيات القيادية.
رغم أنّ القيادة فن، لكنّها تنبع من أصول يمكن اكتشافها ونقلها وتعليمها. ومع وجود مجالٍ حيوي وقائدٍ مؤمن بصناعة القادة، فمن اللازم أن يتمتع المجتمع بوفرة في القادة. لهذا حين نسمع أحدًا يقول إن هذا القائد لو مات فسوف تخرب الأوضاع، فهو يشير إلى نقطة ضعف كبرى في شخصية هذا القائد.
قيادة المجتمعات البشرية ترتبط بتحقيق أهداف بعيدة المدى تتجاوز في الغالب حياة عدة قادة متلاحقين. لهذا، فإن القائد الفذ هو الذي يجعل مسؤوليته الأولى بعد رسم خارطة الطريق للوصول إلى الأهداف، إعداد القادة الذين يلونه من خلال إيجاد المجال الحيوي المذكور.
ليس المطلوب أن يكون القائد الفلاني استثنائيًّا، بل المطلوب أن تكون قيادة المؤمنين كذلك. يجب الارتقاء بمستوى القيادة في تجربة المؤمنين بحيث يكون إنتاجهم للقادة هو الاستثنائي. يشبه هذا الأمر ما يحدث في عالم الاجتهاد الفقهي ومرجعيته؛ المجتهد العظيم غالبًا ما يتحول إلى مدرسة تُخرّج العديد من المجتهدين العظماء؛ وذلك لأنّ عمله الأساسي يتمركز في التعليم والإعداد. بسرعة تبرز هذه المدرسة في تفوُّقها وتتجاوز الشخص وإن حملت اسمه.
لا شك بأنّ لمعاهد إعداد القادة دورًا مهمًّا في هذا المجال، لكن قضية إنتاج القادة أكبر بكثير من مجرّد التعليم. ما لم نوجد ذلك المجال الحيوي الذي يتيح لأي فرد في المجتمع أن يسرع ويسابق عليه في نشاطه الاجتماعي، فهذا يعني أنّنا لم نتمكن من وضع كل إمكاناتنا في الموضع الصحيح.
المعلومات والخبرات تمثّل جزءًا مهمًّا في هذه العملية، لكن ما لم يتوافق هذا المجال مع آليات إدارية شديدة المرونة والذكاء، فقد يتحول إلى طريق صعب وشاق يعيق عملية الإنتاج ويضعفها.

كلفة إنتاج القادة في الأزمنة الصعبة... وماذا يعني فقدان القادة
خسارة القادة ليست صدفة غير قابلة للتفسير وليست أمرًا عابرًا أو عبثيًّا، بل تندرج ضمن حسابات إلهيّة عميقة ترتبط بمسيرة الأتباع على طريق الاقتدار الذي يحقّق العزّة والكرامة في ظل الإسلام وقيمه. تحتاج هذه الشعوب إلى إعادة اكتشاف العملية الصحيحة والدقيقة لبناء القدرة، ومقتل القادة تحذيرٌ كبير ودعوة قاسية لفعل ذلك.

الأبوة شرط القيادة.. كيف يضمن القائد النجاح
حين تكون القيادة مظهرًا لإرادة الله تعالى فسوف يكون صاحبها مؤيَّدًا ومسدَّدًا؛ فلن يخذله الله ولن يخزيه حتى في المواقف التي لا تكون له فيها القدرة أو الدراية والمعرفة. ولكي يصبح القائد مسدَّدًا، فإنّ الشرط الأول الذي يجب أن يلتزم به منذ البداية وحتى النهاية هو ألّا يكون راغبًا ومندفعًا وطالبًا للرئاسة والزعامة والترؤُّس على الناس بأي شكل
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...