
الكتاب صانع الحضارات
كيف يصبح الكتاب عاملًا أساسيًّا في هذه المهمّة؟
السيد عباس نورالدين
إذا أردنا أن نكون جزءًا من المشروع الكبير لبناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة، ينبغي أن نتعرّف إلى كل عامل له إسهام وتأثير فاعل في تحقيقها. ولا شك بأنّ الكتاب هو أحد أهم هذه العوامل وأكثرها تأثيرًا.
يمكن أن نحدّد موقعية أي مجتمع وموضعه على هذا المسار الحضاريّ من خلال دراسة وضع الكتاب فيه. فإمّا أن يكون مؤشّر إنتاج الكتاب في تراجع أو في ازدهار. بل إنّ مستوى ازدهار إنتاج الكتاب يحكي عن سرعة هذا المجتمع في سيره الحضاريّ أيضًا.
وبالرغم من العلاقة الوثيقة بين الكتاب والمطالعة، لكن يبقى للكتاب خصوصيّته. فربما ازدادت معدّلات المطالعة وانخفض إنتاج الكتاب بسبب انهماك الناس في مطالعة النصوص المنشورة على وسائط التواصل. وأغلب الظن أنّ ما يقرأه شباب اليوم من كلمات يفوق بعدّة أضعاف ما كان شباب ما قبل اختراع تلك الوسائط، يطالعونه (وهذا ما تشير إليه الإحصاءات والدراسات المختلفة).
الكتاب هو تعبير عن إنتاجٍ معرفيّ ينحو نحو العمق والاستيعاب والجدّيّة والعلميّة، بخلاف النصوص المختصرة والمقتطعة.
والكتاب يحكي عن وجود التزام تجاه الفكر والعلم.
والكتاب هو دعوة علنيّة للانخراط في هذه العملية.
وقد أشار بعض الباحثين إلى أنّ لنزوع الناس نحو الاكتفاء بالنصوص المختصرة في حياتهم، علاقة مباشرة في إيجاد ما يُسمّى بظاهرة تسطيح الفكر. فإنسان الوسائط الاجتماعيّة ينحو نحو تبسيط جميع الأمور، وهو يرفض التعمّق والإحاطة الشمولية.
الكتاب يشير إلى جدّية الإنسان في التعامل مع قضايا الحياة والوجود، وإلى مستوًى من عمق الاهتمام بها؛ ولهذا، لا يوجد من الوسائل ما يضاهيه أو يأخذ مكانه في عمليّة تعميق الفكر الإنسانيّ وحثّ النّاس على الاهتمام بالأمور الكبرى والحسّاسة.
إنّ ازدهار الكتاب يحكي عن التزام عام بمناقشة تلك القضايا ومتابعتها وتداولها على نطاقٍ واسع؛ إنّه الرافعة الأساسية لأي مجتمع يريد أن يسلك طريق المجد والتقدّم والاقتدار.
والكتاب هو مظهر لقوّة ثقافة أي مجتمع وحضورها.
والكتاب يدلّ على التزام الإنسان بتكميل نفسه والاتّجاه نحو عالم المعنى.
كل ذلك يعرفه من عرف الكتاب، ولكن قلّما وجدنا من أدرك عوامل ازدهار الكتاب في المجتمعات البشريّة. ولهذا، تذهب معظم جهود ترويج الكتاب ونشر ثقافته أدراج الرياح، وتتبخّر الأموال الكثيرة التي تُنفق من أجل ذلك.
إنّ العامل الأساس في تحقيق هذا الهدف الحضاريّ الكبير يكمن، وبكل بساطة، في احترام موقعيّة الكتاب ودوره كصانعٍ للظواهر.
الظواهر الاجتماعية المختلفة إمّا أن تكون حصيلة عوامل عشوائية غير عقلائية، فتكون في النهاية كذلك، أي ظواهر عشوائية عارضة، كالموضة وأمثالها؛ فهي تظهر فجأة ثمّ تزول، من دون أن تترك أثرًا واقعيًّا في ازدهار المجتمع أو تقدّمه، كالزبد في الماء أو الطّعام؛ وإمّا أن تكون وليدة حركة اجتماعية نابعة من الفكر والوعي والعقلانيّة؛ فهذه الظواهر هي ممّا يُكتب له البقاء والتأثير على مسار المجتمع. كل هذا بمعزل عن حسن هذه الظواهر وقبحها.
أشهر الظواهر في مجتمعاتنا اليوم هي تلك التي حدثت كردّة فعل على فعلٍ خارجيّ تميّز بالقوّة والتأثير العميق على بنية المجتمع، مثل ظاهرة المقاومة تجاه الاحتلال.
قد تستمد مقاومة أي مجتمع من عناصر كامنة في ثقافتها لتنمو وتقوى، إلّا إذا كان الاحتلال هو الباعث على نشوئها، فهي مجتمعات منفعلة لا ترتبط بالقيم الموجودة في ثقافتها ارتباطًا عميقًا يجعلها منيعة تجاه الغزو أو مُهابة عند الأعداء.
وهناك ظواهر اجتماعيّة ظهرت في التاريخ كرد فعل على حركة داخلية، مثل بعثة الأنبياء وتحرّكات المصلحين، الذين استطاعوا أن يزلزوا كيانات مجتمعاتهم، ويحدثوا فيها يقظات كبيرة؛ وأدّى ذلك إلى انبعاث الناس للّحاق بركب البناء الحضاري.
وللكتاب مثل هذه القدرة؛ أي القدرة على إحداث هذه التفاعلات والانفعالات التي يمكن أن توقظ الأمم وتحرّك الشعوب؛ كما فعل القرآن الكريم في حياة المسلمين الأوائل، وكما حدث في أوروبا بفعل كتاب "مارتن لوثر"، الذي أدّى إلى الحركة البروتستانتية؛ وكما جرى في إيران الحديثة بفضل كتاب "الحكومة الإسلامية" للإمام الخميني قُدّس سرّه.
ولبعض الكتب تأثيرٌ مهمّ في تغيير سلوكيّات الناس وتعاملهم مع بيئتهم وأوضاعهم، كما فعل كتاب "لن تغرد الطيور في الربيع"، الذي أدّى إلى حظر استعمال مادّة الدي دي تي، التي كانت مستخدمة على نطاقٍ واسع في المبيدات الحشرية الزراعية. ولو استطعنا الوقوف على أهم الثورات والتحوّلات الاجتماعية والثقافية، التي جرت في العالم، لوجدنا للكتاب حضورًا مميزًا فيها.
لقد صرّح الله تعالى في القرآن الكريم بشأن الدور المحوريّ للكتاب في حركة الشعوب، كما قال عزّ وجل في سورة الحديد: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْميزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَديدَ فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيز}،[1]حيث نجد الكتاب حاضرًا وبقوّة في دعوة الأنبياء ورسالاتهم.
أجل، يمكن للكتاب أن يكون صانع ظواهر؛ الظواهر التي تحكي عن حِراك جمعيّ خاصّ، وعن بلوغ التفاعل الاجتماعي في قضيّة ما مرحلة النّضج والتبلور؛ إلّا أنّ ذلك كلّه يمكن أن يحصل بشرطٍ واحد وهو: أن لا يكون هناك من يعمل على تهديم دوره والوقوف بوجه حركته الطبيعية.
فالمجتمعات التي تأثّرت وتفاعلت مع الكتاب هي مجتمعات كانت تحترم الكتاب أو جاءها من يفرض احترامه عليها، ولو بقوّة المواجهة (كما حدث مع القرآن الكريم). وقد أدّى هذا التقدير والاحترام إلى إحداث موجات متتالية من التفاعل مع مضامينه وثمار مضامينه وثمار هذه الثمار. فالكتاب يمكن أن يكون مثل الأمواج الانفجارية لانشطارات ذرية تمتد لمسافات بعيدة.
لقد أرست بعض المجتمعات ركائز التأثير المطلوب للكتاب، فأصبحت هذه الركائز جزءًا أساسيًّا من كياناتها الاجتماعيّة (جامعات، معاهد، مؤسسات القرار، و...)، ولم يعد بإمكانها أن تسير في هذه القضية بعكس الزمن. لهذا، فسوف تكون مشكلتها إن وُجدت، في الكتاب نفسه، حيث يكون هو الداء والدواء، (وهنا يأتي دور المضمون). وبفضل هذه الركائز التاريخية صار الجميع يفكّرون بالتغيير والتأثير انطلاقًا من الكتاب (حتى لو كان التغيير نحو الأسوأ).
وهناك مجتمعات ما زالت تعمل على نبذ دور الكتاب، من خلال إلغاء دوره الفعّال في صناعة الظواهر، عبر القيام بمجموعة من الأفعال غير العقلائية. وعلى رأس هذه الممارسات الطائشة عدم تقدير الكتاب المبدِع الذي يُفترض أن يكون شرارة أي تحوّل!
إذا لم يكن الكتاب مقصودًا بذاته، فهو مقصود لأنّه صانع للظواهر والتحوّلات. ولا شك بأنّ تحقّق هذه الظواهر لا بدّ أن يبدأ من نقطةٍ ما، تكون بمثابة شرارة انفجار أمواج التفاعل المستقبلية. فإذا لم نسمح بحصول مثل هذا الدور، فنحن كمن يعمد إلى إطفاء كل شرارة قبل تحوّلها إلى نار مشتعلة.
وأحد أساليب إطفاء هذه الشرارات يحدث من خلال تغافل أصحاب القرار والمؤثّرين عن أي عمل إبداعي، وعدم اهتمامهم بالترويج له ودعمه وتقديره؛ خصوصًا إذا كان هذا العمل الإبداعيّ مؤثّرًا فيما يتعلّق بالقضايا المصيريّة. وإحدى آفات مجامعنا العلميّة الدينيّة وجود موانع نفسيّة وفكريّة تؤدّي إلى التّغافل عن أي أطروحة علميّة جديدة، ولو كانت في مجالٍ ضيّق، كالتي تنقد بعض أصول الاستنباط أو بعض قواعد التحقيق في الرجال والأسانيد وأمثالها.
وللتغافل أشكال أخرى لا تقلّ سوءًا؛ منها أن يعمد المؤثّرون إلى إهمال العمل الإبداعيّ بالمسارعة إلى نشر مثيلات له، خصوصًا إذا كان المقصود طمس شهرة كاتب أو منع انتشاره. وغالبًا ما تؤدّي مثل هذه الأعمال الرديفة إلى ما يشبه البلبلة والضجيج لمنع سماع الصوت الأصليّ.
للأفكار الجديدة والإبداعية ميزة خاصّة في لفت النظر وفي إعادة النظر وفي الحثّ على المشاركة والتفاعل. وحين يظن النّاس أنّ هناك الكثير من أمثال هذا الكتاب والأفكار، فلن يقبلوا عليها من الأساس، وإن كانوا يجهلونها؛ فإن أقبلوا، لن يتفاعلوا معها من موقعها ودورها كشرارة تشعل نارًا.
إنّ خوف أصحاب القرار والمؤثّرين من الإبداع ومن خروج الظواهر من قدرة سيطرتهم، لم يؤدِّ إلّا إلى أمرٍ واحد، وهو استفراد الآخرين بمجتمعنا، وانفتاح مصاريع الأبواب لهم ليعربدوا في ثقافاتهم المنحطّة.
[1]. سورة الحديد، الآية 25.

روح المجتمع
كتابٌ يُعدّ موسوعة شاملة ومرجعًا مهمًّا جدًّا يمتاز بالعمق والأصالة لكلّ من يحمل همّ تغيير المجتمع والسير به قدمًا نحو التكامل، يحدد للقارئ الأطر والأهداف والسياسات والمسؤوليات والأولويّات والغايات المرحليّة والنهائيّة في كلّ مجال من المجالات التي يمكن أن تشكّل عنصرًا فعّالًا في حركة التغيير، على ضوء كلمات قائد الثورة الإسلاميّة المعظّم روح المجتمع الكاتب: الإمام الخامنئي/ السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 19*25غلاف كرتوني: 932 صفحةالطبعة الأولى، 2017م ISBN: 978-614-474-020-0 سعر النسخة الملوّنة: 100$سعر النسخة (أبيض وأسود): 34$ للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراءه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:

أنا والكتاب
لا شيء يضاهي قراءة كتاب ممتع مثل حديث قارئ نهم عن تجربته مع الكتاب والمطالعة.. وفي هذا الكتاب عرض لأهم كلمات الإمام الخامنئي حول المطالعة والكتاب ودوره في بناء الحضارة الإسلامية الجديدة، ومسؤولية العاملين في مجال الفكر والثقافة على مستوى ترويج المطالعة في المجتمع، وغيرها من النصائح المفيدة والممتعة التي ترتبط بأهم نتاجات الفكر البشري.. وقد قدم للكتاب المترجم السيد عباس نورالدين بعرض أطروحة تختصر هموم الكتاب. أنا والكتاب الكاتب: الإمام الخامنئيترجمة: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 14*21 غلاف ورقي: 152 صفحة الطبعة الأولى، 2012مالسعر: 8$

هل اكتشفت الثّراء الحقيقيّ؟ الحياة الغنيّة في عالم الكتاب
حين تتّصل بعالم الكتاب وتشعر بأنّ لديك قدرة الوصول إلى المعارف والحِكم والمعاني اللامتناهية المبثوثة فيه من قِبل مئات آلاف الكتّاب والمفكّرين، ستشعر أنّك غنيٌّ حقًّا، وأنّ حياتك متّصلة بالفرص الواسعة.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...