
ذلك الرجل الخمسيني البائس
ماذا لو أصبحت عاطلًا عن العمل وأنت في الخمسين؟
السيد عباس نورالدين
من المشاهد المؤلمة التي لا أنساها ما حييت حين كنت أرى رجلًا خمسينيًّا لم يهرم ولم يفقد قواه ونشاطه، لكنّه فقد وظيفته، وهو مع ذلك لا يجد عملًا يؤمّن لعائلته قوت يومها وحاجاتها الأساسية؛ كنت أراه مضطربًا حائرًا وقد انطفأت شعلة الحياة من عينيه رغم أنّه ما زال في منتصف العمر. ولا تبارح ذاكرتي مواقف الذلّ الظاهر والباطن، التي كانت تعتري هذا الرجل وهو يقابل الناس ولا يستطيع أن يقدّم نفسه كصاحب مهنة أو مهارة.
بعض هؤلاء المنكوبون، قد يشتري سيّارة ليعمل عليها كسائق أجرة كونها المهنة التي لا تتطلّب أي نوع من المهارات، وباعتبار رخص أسعار السيّارات المستعملة. لكن ماذا عن الرخصة العموميّة؟! وماذا عن غرق السوق بسائقي الأجرة إلى حدّ الثمالة؟! تراه يقود سيّارته ليل نهار عسى أن يسترجع ثمن ما دفعه للوقود مع قليل ما يسدّ الرمق.
أي حياة هذه؟! لا يمكن أن أقبل بها!!
وماذا إذا لم يجد من يقرضه المال اللازم لشراء سيّارة مستعملة واستئجار رخصة عمومية؟ وربما اضطرّ إلى شراء سيّارة قد أكل عليها الدهر وشرب، فينفر أكثر الناس من ركوبها ويبقى هو مشغولًا بإصلاح أعطالها. وهكذا، تستمر دوّامة الانهيار، وتسري إلى منزله الذي يبدأ بالتداعي في دهانه وأدواته الصحيّة وكهربائيّاته وأثاثه، ليتحوّل إلى خربة في سنوات قليلة؛ فيهرم منزله قبل هرمه.
هكذا نشاهد العديد من الرجال في مجتمعنا وقد انتقلوا بعد عزّ إلى هامش الحياة، يقتاتون بما يفضل عن غيرهم، فتُذلّ أُسرهم وتنكسر نفوسهم.
لقد شكّلت هذه الظاهرة لي مفتاحًا لطرح أسئلة كثيرة وعميقة حول الحياة والمصير. وأكثر ما كان يقلقني هو أن أعجز عن تفسيرها وفهم أسبابها فألاقي المصير الذليل ذاته؛ لكن وبحمد الله اتّضح أنّ هذه التساؤلات كانت سببًا لنيل الكثير من حكمة الحياة.
بالنسبة لي عرفت أنّ هذه الظاهرة ليست سوى نتاج مسير تاريخيّ اجتماعيّ ثقافيّ تعليميّ، ما زال ينخر في قلب مجتمعاتنا ويعشعش في أركانها؛ ممّا أدى إلى كل هذه المآسي مع ما فيها من أزمات نفسيّة واجتماعيّة، وما أعقبها من جرائم وتفكّكٍ أُسريّ وخيارات سيّئة لا تزيد المشكلة إلا سوءًا.
لا مبالغة إن قلنا أنّ أكثر مشاكل مجتمعنا تنبع من عجز ربّ الأسرة عن تأمين حياة كريمة لأسرته، فحيفظ تماسكها ودفئها؛ لأنّ هذا العجز سرعان ما سيضرب متانة العلاقة الزوجيّة، ويُخدش في صورته كقدوة ضرورية لأبنائه، ثمّ يتشعّب الأمر فيمس عمق القضايا الروحية والنفسية والسلوكية.
ما كان يهمّني بعد تحديد أسباب هذه الظاهرة هو معرفة كيفية حلّها؛ ولو على مستواي الشخصيّ، بل اجتناب الوقوع فيها. فالذين فقدوا وظائفهم لم يكن الكثير منهم يتصوّرون أن يأتي هذا اليوم، وقد بنوا أحلام المستقبل وآمال التقاعد على وضعٍ معيشيّ مستقر ونظامٍ اقتصاديّ مستتب.
لهذا سمحت لنفسي أن أغوص في تفكيرٍ عميق، ووجدتني أمام قضيّة بحجم الحياة كلّها. وأوّل ما توصّلت إليه هو أنّ المشكلة تبدأ من المدرسة.
إنّ نظرة سريعة تبيّن أنّ معظم الذين يفقدون وظائفهم في مثل هذا العمر لا يتمتّعون بتعليمٍ أكّاديميّ مميّز؛ وبسبب ذلك اختاروا وظائف سهلة لا تتطلّب حذاقة أو تخصّص يمكن تطويره بالعمل والتجربة. وهكذا يفقد هؤلاء القدرة التنافسية في سوقٍ متغيّر ومتطلّبات جديدة وتقنيّات متسارعة. والسبب الأوّل لهذا العجز يعود إلى عدم إكمال الدراسة الجامعية أو إكمالها دون أي تميّز أو إتقان.
بيد أنّ ضعف النتاج الجامعي هذا، لم يكن سوى أثر لذلك التعليم المدرسي العاجز.
وكما نعلم يوجد ثلاث فئات من خرّيجي المدرسة الثانوية:
الفئة الأولى هم الذين لا يكملون دراستهم الجامعية.
والفئة الثانية هي التي تختار الاختصاصات التي لا تتطلّب النجاح المدرسي والمهارات العلمية والذهنية العالية.
والفئة الثالثة هي التي تتخرّج من المدرسة ولديها العديد من الخيارات للتخصّص في فروع علمية مميّزة يمكن أن تؤمّن لها فرص عمل مناسبة.
بالنسبة للفئة الثانية لن تكون الدراسة الجامعية سوى نوع من إضاعة الوقت؛ لأنّهم لن يمتلكوا أي مهارة واقعية تمكّنهم من الحصول على وظيفة أو مهنة مناسبة. والمقصود بالمهنة المناسبة هي تلك التي تؤمّن لهم فرصة التكامل والاحتراف والمواكبة للتغيرات والتكيّف مع الظروف المتغيّرة لسوق العمل وغيرها. فلا إتقان ولا تكامل ولا إدراك للمتغيّرات.
وحين لا يكون هناك إتقان فلا تطوّر، وحين لا يكون هناك تطوّر فلا فرصة واقعية للمنافسة في سوق الغاب الاقتصادي!
أثبتت التجارب أنّ إحدى الضمانات الكبرى للبقاء في سوق العمل هي الإتقان والحذاقة. وهذا ما أصبح يتطلّب مواكبة المتغيّرات الاقتصادية والتطوّرات التكنولوجية والظروف والحاجات المستجدّة.
بفضل هذه المواكبة يمكنك أن تستشرف أي تهديد لمهنتك، فتحوّله إلى فرصة لتقوية عملك. لكن هذه المواكبة تحتاج إلى تقدّم، والتقدّم والريادة غير ممكنين من دون إتقان. والإتقان صعب من دون علم ومعرفة واختصاص وكدح.
إنّها الخيارات الأولى التي بدأت في المدرسة بمعزل عمّن يتحمّل المسؤولية هنا. إلّا أنّ مدارس اليوم عاجزة إلى حدٍّ كبير عن تزويد طلّابها بالرؤية الواقعية للحياة وتحدّياتها وفرصها وما يمكن أن يجري فيها. وأحد المشاهد الواقعية لهذه الحياة هي هذا الرجل الخمسينيّ، الذي فقد وظيفته من دون أن نفهم أسباب هذه الكارثة التي حلّت به، فتتكرّر في حياتنا وتجلب معها كل تلك المآسي والأزمات.
نحن بحاجة إلى وعي تام بآثار وتبعات خياراتنا منذ الطفولة. لأنّ الكثير ممّا نجنيه في الغد هو نتاج ما زرعناه في هذه المرحلة العمرية. فقد تشكّلت هذه المجتمعات المعاصرة على هذا الأساس، وكانت المدرسة هي العنصر المحوريّ في إعداد الطاقات والمهارات اللازمة لخوض معترك الحياة.
من المهم جدًّا أن يدرس طلّاب المرحلة الابتدائية والمتوسّطة هذه الظواهر المؤسفة ويتعرّفوا على أسبابها ليعلموا أنّه بإمكانهم الحؤول دون الوقوع فيها إن أحسنوا الاختيار وكدحوا والتزموا بقيمة الإتقان والحذاقة والعلم والأمانة والمواكبة للمتغيّرات.

همومك تحكي من أنت
الهموم والهواجس وما يصاحبها من حيرة وقلق أمور تنشأ من طبيعة تواجدنا في هذا العالم المتحوّل والمتبدّل. جهلنا بالمستقبل وصعوبة إدراك الغيب تولّد فينا الهمّ والاهتمام. فكل قضايانا وشؤون حياتنا قابلة للتحوّل والتغير، مهما كانت الضمانات التي حصلنا عليها بشأنها. فلا أحد يمكنه أن يجزم بأنّ أوضاعه المالية ستبقى هكذا إلى نهاية العمر.

تعالوا نرتقي بهمومنا
لما كان الهمّ نابعًا من الاهتمام الممتزج بالقلق، ولمّا كان الهمّ أمرًا طبيعيًا في سنّة الكون ونظام الحياة الدنيا، فسوف يكون عنصرًا مفيدًا إن ارتبط بالنظام الكوني الأعلى.

معيشتنا تحدّد مصيرنا
أجل، معيشتنا تحدّد مصيرنا الأبديّ. فقليل من التأمّل في تحدّيات العيش في الدنيا يجعلنا ندرك كم هي عميقة هذه القضيّة وكم هي مرتبطة بقضايا الكون الكبرى.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...
مجالات وأبواب
نحن في خدمتك

برنامج مطالعة في مجال الأخلاق موزّع على ثمان مراحل
نقدّم لكم برنامج مطالعة في الأخلاق على ثمان مراحل