
هل تريد قصّة ناجحة؟
لماذا تُعدّ الحكمة أساس نجاح كل قصّة؟
السيّد عبّاس نورالدين
تولّدت الآداب من رغبة الإنسان أو حاجته لنقل تجاربه وأفكاره ومشاعره إلى غيره من بني جنسه. وتعاظم شأن الآداب حين امتزجت بالفنّ الجميل والبيان الجذّاب، فأصبح الاستمتاع بفنونها جزءًا أساسيًّا من نشاطها وتطوّرها.
تحفل حياة البشر بالتّجارب المليئة بالعبر وبالحكم والدّروس. وينطلق الإنسان من شعوره بالعطف والمسؤوليّة تجاه أخيه الإنسان لنقل هذه التّجارب إليه عسى أن يستفيد منها ولا يكرّر أخطاءه أو يعيش معاناته وآلامه. فالتّجارب الإنسانية تشكّل أحد أهم قنوات المعرفة، وحين تُعرض بأسلوبٍ أدبيّ جماليّ فنّيّ، فإنّنا نندفع لمطالعتها وحفظها والتفكّر فيها.
ولكن، هل كل من عاش تجربة مميّزة خارجة عن رتابة الحياة وضحالتها استطاع أن يفهم سرّها ويدرك مغزاها؟ وهل بإمكان أي إنسان أن يحيط بتجربته ويعرضها كما هي غير منقوصة العبر والدروس؟
إنّنا كبشر، نواجه الموت في أعمارنا مرّات عدّة؛ موت الأعزّاء أو موت الناس أو حتى موتنا نحن، حين نُصاب بمرضٍ شديد. ولكن من الذي فهم ظاهرة الموت هذه واستطاع أن يربطها بحياته ومصيره والحكمة من وجوده؟ فهذه تجربة عميقة تسري في كل ذرّات وجودنا وتجعلنا نعيد التّفكير بكلّ شيء، ولكن مع ذلك لا يبدو أنّ أدبيّات البشر قد استطاعت أن تغني فكرنا بفهم عمق هذه التّجربة وموقعها في الوجود. بل إنّ ما يبدو لنا من خلال مطالعة الأدب العالميّ استيلاء الحيرة والعبثيّة والتهرّب من مواجهة الموت بشجاعة الحكمة والتعقّل!
ولهذا، لا يكفي أن يمتلك الأديب مهارة البيان وفنون القصّة وعيش التّجارب واختبار المشاعر حتّى يكون أدبه مفيدًا وناجحًا وفق معيار الأدب الأوّل. بل ينبغي أن يمتلك قدرة الاعتبار واستخراج المغزى وفهم الحكمة في تجربته. وحين تخلو القصّة من هذا العنصر، فإنّها تفقد سرّ نجاحها وتأثيرها.
يندفع بعض الكتّاب من واقع تجاربهم العجيبة التي عاشوها، ويشعرون بضرورة نقلها للآخرين، لما فيها من أحداث ووقائع مذهلة مؤثّرة للغاية. لكن حين يبدأون بنقل هذه التّجارب نجد أنّهم عجزوا عن تقديمها وفق أسلوب القصّة، فظهرت كسردٍ متقطّع أشبه بالقطع المتناثرة التي نحتاج معها إلى الحصول على قطع أخرى لكي نفهم ونعتبر وندرك الصّورة الواقعيّة.
فلا شك أنّ ما يواجهه الجنديّ المحارب في ساحات المعارك يمثّل تجارب فريدة، وفي بعض الأحيان، مليئة بالمواقف البطوليّة الاستثنائيّة. لكن القصّة التي ينبغي تقديمها من وراء هذه المواقف، ولكي تكون مؤثّرة ناجحة، ينبغي أن تراعي شرطًا أساسيًّا وهو العبرة والدّرس المستفاد. وحين نأتي على ذكر الدّروس والعبر كشرط أساس لنجاح القصّة، فنحن نتحدّث عن قواعد وسُنن قابلة للتّطبيق والانطباق في حياتنا كقرّاء، سواء كنّا سنواجه المعارك نفسها أو لا.
فالعبرة هي اكتشاف الحكمة في القضيّة، والحكمة هي القانون الكلّيّ الذي يمكن أن ينطبق على مصاديق كثيرة خارج إطار التجربة الخاصّة. ولكي يدرك الإنسان الحكمة في أي شيء ينبغي أن يدرك الحكمة الكبرى من وراء كلّ الأشياء! وهذه الحكمة هي التي ترتبط بمعرفة سرّ الوجود وحقيقته الكليّة.
فمن علم أنّ هذا الوجود ليس سوى ظلّ الله وفعله ومشيئته، اتّصل بحبل الحكمة. ومن أدرك أنّ كل ما يجري في العالم إنّما يرجع إلى الله في شأنه، لأنّه تعالى خالقه وموجده، فقد ارتبط بمنبع الحكمة.. إنّ حكمة الجزئيّات ليست سوى ظلّ الحكمة الكبرى وجلوتها، ولا يمكن إدراك حقيقة الجزئيّ إلا بعد معرفة الكلّيّ، لأنّ الجزء ليس إلّا بالكل.
إنّ الأدب المؤثّر هو الأدب الذي يتّصل بحكمة الوجود ويجري وفق تفجّر ينابيعها في أوديةٍ بقَدَرها. وحين يفقد أي أدب مثل هذا العنصر المحوريّ، فإنّه لن يعدو أن يكون تجربة شعوريّة عابرة في أحسن الحالات. وإلّا فهو سبب لحيرة الإنسان وضياعه وفقدانه للأمل الذي يحتاج إليه للسّير في آفاق الحياة الجميلة المليئة بالفرص والفوائد.
ما هي الحكمة من وجود هذا الكيان الغاصب؟ وما هي الحكمة من وراء وجود هذه التيّارات الإجراميّة التّكفيريّة التي مزّقت الأمّة الإسلاميّة شرّ ممزّق؟ وما هي الحكمة من وجود قوّة عالميّة متغطرسة تهيمن على الشّرق والغرب؟ وما هي الحكمة من وراء هذا التخلّف والضياع الذي نعيشه؟ وما هي الحكمة من وجودنا في هذا الكيان السّياسيّ الممسوخ؟ وما هي الحكمة من وراء كل هذا التلوّث والدّمار البيئيّ؟ وما هي الحكمة في وصول البشريّة إلى هذه القدرات التكنولوجيّة الهائلة؟ وما هي الحكمة في بلوغ الغرب كل هذه القدرات الفنّيّة السّاحرة التي تضل البشر وتغرقهم في بحر الفساد والفجور؟ وما هي الحكمة من وجود هذه المليارات التي لا تعرف المغزى من الحياة؟ وو...
هل امتلكنا هذه الحكم لندرك من بعدها الحكمة من وجود بعض الأشرار الحاسدين في حياتنا الذي يكيدون لنا ولا يرعوون عن الإساءة لنا إلى حدّ التدمير؟ وهل عرفنا حكمة الخلق حتى نتمكّن من فهم قصّة وجود هذه المشاكل الزوجيّة الخانقة؟
لو أدركنا الحكمة الكبرى لاستطعنا أن نرى بوضوح أنّ كل هذا التّفاعل والاحتكاك النفسيّ في حياتنا الشّخصيّة ليس سوى نتيجة وأثر لأحداث العالم الكبرى. ففي جميع علاقاتنا وروابطنا وتفاعلنا فيما بيننا نحن نعمل وفق نظامٍ اجتماعيّ تشكّل من وراء الأحداث الكبرى التي هي أفضل وسيلة لفهم الحكمة الأولى.
الحكيم الواقعيّ هو الذي يتمكّن من ربط كل ظاهرة بأسبابها. وكل سبب في هذا العالم يرجع حتمًا إلى السّبب الأوّل وهو الله تعالى.
فحين تجتمع الحكمة والتّجربة وجمال البيان، سيتولّد الأدب الرّفيع الذي تحتاج إليه البشريّة لنهضتها وحلّ مشاكلها وتقوية روابطها.

لماذا الإقبال على القصص والروايات؟
ينشط سوق القصّة والرواية حتى في العصر الرقمي. فما الذي يدفع القرّاء إلى مطالعة مجلّدات ضخمة في الوقت الذي اعتادت أذهانهم على المقاطع القصيرة في قنوات التواصل الاجتماعي؟ هذا السؤال يمكن أن يساعدنا في الكشف عن أحد أهم أسرار الكتابة الناجحة.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...
مجالات وأبواب
نحن في خدمتك

برنامج مطالعة في مجال الأخلاق موزّع على ثمان مراحل
نقدّم لكم برنامج مطالعة في الأخلاق على ثمان مراحل