
همومك تحكي من أنت
السيد عباس نورالدين
الهموم والهواجس وما يصاحبها من حيرة وقلق أمور تنشأ من طبيعة تواجدنا في هذا العالم المتحوّل والمتبدّل. إنّ جهلنا بالمستقبل وصعوبة إدراك الغيب تولّد فينا الهمّ والاهتمام. فكل قضايانا وشؤون حياتنا قابلة للتحوّل والتغيّر، مهما كانت الضمانات التي حصلنا عليها بشأنها. فلا أحد يمكنه أن يجزم بأنّ أوضاعه المالية ستبقى هكذا إلى نهاية العمر. فقد تقع حوادث كثيرة تؤدّي إلى فقدان ثرواتنا أو مدّخراتنا مهما كثُرت. ولا أحد يمكنه أن يطمئن تمامًا إلى أنّ وضعه الصحّيّ سيبقى مستقرًّا دومًا، مهما كانت التدابير الصحّيّة التي يطبّقها. وهكذا أيضًا بالنسبة للعلاقات العاطفيّة وبالنسبة للمهنة والمكتسبات الاجتماعيّة وغيرها من شؤون الدنيا. فكل هذه تبعث في نفوس الناس الهواجس، وقد تتحوّل الهواجس إلى نوع من القلق الدائم الذي يمكن أن يسيطر على تفكيرنا وأحوالنا النفسية. وكل من جرّب هذا النوع من الهموم والاضطرابات يعلم جيدًا مدى تأثيرها السلبي على حياته وسعادته واستقراره النفسيّ ونظرته إلى الحياة. لهذا يسعى البعض ويتمنّى الكثيرون أن يتعرّفوا إلى حلّ أو علاج لمثل هذا القلق والهموم. وقد يطبّق البعض أنماطًا من العلاجات التي سرعان ما يتبيّن مدى فشلها.
يحفل عالمنا بالبرامج والطرق التي تدّعي قدرتها على معالجة هذا القلق. وبعضها يدعو إلى معايشة اللحظة وعدم النظر إلى المستقبل، لأنّ التفكير بالآتي هو العامل الأوّل للقلق والاضطراب النفسيّ. فهل يمكن للإنسان أن ينقطع عن المستقبل والآتي؟ وماذا لو فعل الإنسان مثل ذلك؟ فهل ستستقيم الحياة؟ وكيف سيدفع الكثير من المخاطر التي لا تندفع إلا من خلال التحضير المسبق والاستعداد الحالي؟
إن تجاوز التفكير بالمستقبل سيكون من أسوأ العوامل المدمّرة للإنسان والحياة البشرية. ولولا النظر المستقبليّ والتخطيط البعيد المدى، لكانت الحياة مليئة بالمشاكل وربما لم يكن من حياة.
التفكير بالمستقبل نعمة كبرى وعلى الإنسان أن يتمسّك بهذه النعمة ويستعملها استعمالًا صحيحًا، لأنّ المستقبل هو المصير وهو العاقبة وهو الشاكلة النهائية التي سنكون عليها. وكل من يبدأ العمل لمستقبله مبكرًا، فسوف يحصد المزيد من النتائج والثمار.
إنّ الحل الأساس لمثل هذه المعضلة الإنسانية والمشكلة الشائعة يكمن في فهمنا الصحيح للزمان وما يجري فيه من تحوّلات على صعيد الحياة. وهذا ما يتطلّب فهمًا دقيقًا لكلّ شؤوننا لأنّها جميعًا تخضع لنظامٍ إلهيّ ممتزج بالرّحمة والخير.
فلو استطعنا أن نفهم قوانين الحياة الدنيا فلن نقلق بعدها أبدًا. فأرزاقنا المادية والصحية والعاطفية والاجتماعية ـ أجل إنها أرزاق ـ كلّها بيد الله ومن الله تعالى، وهو يرسلها إلينا وفق نظام الحكمة والمصلحة. فإن كنّا طالبين للمصلحة الواقعية، فلا يمكن أن يحرمنا الله منها. وسوف تكون عاقبة أمورنا مليئة بالخير والبركة والنعمة والسرور والطمأنينة والسعادة.

فن تدبير المعيشة (١)
تدبير المعاش يتطلب مهارات عديدة. ولكن ينبغي أولا أن نتعرف إلى هدف العيش في هذه الدنيا وابعاده. لأن المعاش الصحيح ينطلق من مبادئ صحيحة. وبعد ذلك يصبح مهارة وفنا يحتاج إلى الحكمة والممارسة السليمة. فما هي هذه المبادئ وكيف نطبقها تطبيقًا صحيحًا؟

معيشتنا تحدّد مصيرنا
أجل، معيشتنا تحدّد مصيرنا الأبديّ. فقليل من التأمّل في تحدّيات العيش في الدنيا يجعلنا ندرك كم هي عميقة هذه القضيّة وكم هي مرتبطة بقضايا الكون الكبرى.

ذلك الرجل الخمسيني البائس... ماذا لو أصبحت عاطلًا عن العمل وأنت في الخمسين؟
من المشاهد المؤلمة التي لا أنساها ما حييت حين كنت أرى رجلًا خمسينيًّا لم يهرم ولم يفقد قواه ونشاطه، لكنّه فقد وظيفته، وهو مع ذلك لا يجد عملًا يؤمّن لعائلته قوت يومها وحاجاتها الأساسية؛ كنت أراه مضطربًا حائرًا وقد انطفأت شعلة الحياة من عينيه رغم أنّه ما زال في منتصف العمر.

تعالوا نرتقي بهمومنا
لما كان الهمّ نابعًا من الاهتمام الممتزج بالقلق، ولمّا كان الهمّ أمرًا طبيعيًا في سنّة الكون ونظام الحياة الدنيا، فسوف يكون عنصرًا مفيدًا إن ارتبط بالنظام الكوني الأعلى.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...