ولاية الفقيه
من المرجعية إلى النظام والأطروحة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب الخميني القائد
ولاية الفقيه كانت رسالة للثورة وأطروحة للثوار خاطبوا بها العقل المتدين قبل حوالي خمسين سنة، ودعوه بواسطتها للانخراط في حركة التغيير الكبرى. ويمكن القول بأنّه ما كان للثورة الإسلامية أن تنتصر لولا جعل هذه الأطروحة رسالة للثورة. وبالتأكيد هذه الأطروحة تفاوت فهمها واستيعابها من شريحة إلى أخرى وسط مجتمع الثائرين، كل ذلك بحسب ما كانت تمتلكه كل شريحة من مقدمات ومرتكزات.
فشريحة كانت تتلقاها كقضية متصلة بالمهدوية، تمثل امتدادًا لولاية إمام الزمان عجل الله فرجه. وشريحة باتت تعتبرها مظهرًا لامتحان الولاية في الحياة الدنيا، حتى صارت طاعة الولي الفقيه عندها تعني طاعة الإمام المعصوم. وشريحة أخرى اعتبرتها أطروحة لنظام الحكم وقيادة المجتمع وفق الرؤية الدينية. أما شريحة علماء الدين والمشايخ فقد تعاملت معها من زاويتها الخاصة التي تُطرح في الأبحاث الحوزوية ضمن دائرة صلاحيات الفقيه الجامع للشرائط ونطاق ولايته.
ليس ثمة تنازع وتضارب بين هذه التفسيرات والتأويلات في عالم الثبوت العلمي والحقيقة؛ إنّما حصل النزاع والتعارض في الواقع العملي، أفرز في النهاية تصورًا شاع وساد بحكم غلبة معتنقيه.
في الواقع اللبناني، كان طرح ولاية الفقيه مرتبطًا بقضية المقاومة إلى حدٍّ كبير. أن تؤمن بولاية الفقيه يعني أن تصبح مقاومًا. المتدينون الذين كانوا يبحثون عن تكليفهم وسط هذا التحدي الذي فرضه الاحتلال، كانوا أمام رأيين:
الرأي الأول يطرحه عموم المشايخ الذين تخرجوا من الحوزات الدينية التقليدية. وكان رأيهم هذا في الغالب كردة فعل أمام كل هذا الامتداد الثوري الذي كان يجتاح ساحتنا المنكوبة بالحرب الأهلية والاحتلال، وهم يشاهدون الإمام الخميني مرة أخرى يلاحقهم من الحوزة التي استطاعوا فيها أن يتغلبوا عليه ويخمدوا نيران ثورته ودعوته، إلى ساحة يُفترض أن تكون مسرحًا لتحركهم المريح حيث لا منافس لهم ولا رقيب. وقد كانوا من قبل قد أقصوا هذه الشخصية الثورية عن مجامعهم العلمية إلى حدٍّ كبير، وتخلصوا من تأثيرها عبر سيول الطعن والتخوين والتشكيك، وإذ بها تفاجئهم في ساحة خطابهم ونفوذهم، في القرى والدساكر والمساجد والجوامع؛ وهذه المرة كان عليهم أن يتعاملوا مع شباب مندفعين بقوة المقاومة متحمسين بفعل الجهاد والشهادة، ممن لا يمكن إقناعهم بسهولة إقناع الطالب الحوزوي المنقطع عن العالم الخارجي وأحداثه الكبرى.
كان على هذه الشريحة المتضررة من حضور الإمام أن تواجه نفوذه الجديد من النقطة التي توجع أكثر من أي شيء آخر: من اعتبار كونه وليًّا قائدًا يجب طاعته في الأمور الاجتماعية وعلى رأسها المقاومة. ولذلك وجهوا سهام اعتراضهم هذه المرة نحو أصل الولاية وسعوا إلى دحضها باستخدام الخطاب الفقهي الذي لم يعرفوا غيره. وحين لم يتمكنوا من إسقاط المبدأ توجهوا إلى شخص الإمام نفسه عبر التشكيك بفقاهته أو حيازته على شرائط المرجعية.
وفي المقابل، كنّا كشباب متحمسين ـ ونحن نبحث عن أي عضد أو ناصر في مقاومتنا ـ نرى في أفكار هذه الشريحة وخطابها خطرًا على المقاومة وقوتها ودوامها. فكم من شاب ترك الجهاد فقط لأنّ هناك من أقنعه بأنّه لا يجب عليه طاعة الإمام الخميني، وذلك تحت حجة أنّه لا يوجد في الإسلام شيء اسمه ولاية الفقيه. وكنّا إذا نجحنا في إقناع أي شاب متدين بمبدأ ولاية الفقيه نضمن انخراطه في العمل المقاوم بسهولة.
كانت الجدالات الأولى حول ضرورة المقاومة تجري في ساحة المتدينين بعد أن هجرها العلمانيون والملحدون والقوميون والوطنيون السابقون عقب هزيمة الاجتياح الصهيوني عام 1982. ولذلك كان النقاش يتركز في دائرة يعرفها هؤلاء المتدينون الملتزمون دون سواهم، وهي قضية التقليد والمرجعية.
طرح ولاية الفقيه في مثل هذه الساحة كان من الطبيعي أن يتفرع من مناقشة قضية المرجعية وشروطها. ولذلك كان إثبات أعلمية الإمام الخميني بعد ثبوت مرجعيته لأي متدين يُعد بحد ذاته إنجازًا كبيرًا على طريق الاقتناع بولاية الفقيه. كثيرون التزموا بحكم الإمام بوجوب مقاومة العدو وجعل أرضنا مقبرة له لأنّه المرجع الذي يجب تقليده، بغض النظر عن قضية ولاية الفقيه أو ما تمثله.
لم يُتعب هؤلاء الملتزمون أنفسهم بشأن ما تعنيه ولاية الفقيه على صعيد الحكومة والقيادة والنظام السياسي، بل كانوا يعرفون شيئًا واحدًا وهو أنّ مرجعنا أفتى بوجوب القتال والجهاد وعلينا أن نلتزم بتقليده.
الجدال الذي دار في مثل هذه الساحة كان بمعظمه ردات فعل، وإن كان في منطلقاته صافيًا يقصد تأمين نصرة المقاومة ومؤازرتها. الانفعال تجاه معارضي ولاية الفقيه ومقولاتهم سيطر علينا إلى الدرجة التي لم نعد نرى من ولاية الفقيه سوى هذا الجانب (أي المرجعية والأعلمية). ولم يكن الانفعال محصورًا في المضمون، بل تعداه إلى أسلوب الاستدلال وطرق الإثبات فخرجت ولاية الفقيه من هذا الجدل محدودة ضيقة للغاية. ومن الطبيعي أن يؤدي سلوك هذا الممر الضيق إلى تضييق نطاق مشروع الولاية وأطروحتها الكبرى.
نحن هنا لا نتحدث عن المراحل الأخيرة من تجربة الساحة المتدينة في لبنان، لأنّ تدينها لم يعد مرتبطًا بفهمها ودراستها ووعيها لولاية الفقيه، بقدر ما أضحى ناشئًا من الإنجازات والانتصارات والمآثر.
في المرحلة الأولى كان لولاية الفقيه الدور الأكبر في بث أنفاس المقاومة. وفي المراحل الأخيرة باتت العناصر الثقافية الهجينة والطارئة كأنّها الحاضر الأكبر، إلى الدرجة التي يشعر معها كل وافدٍ جديد بأنّ المقاومة غنية عن ذلك المبدأ الذي قامت عليه. ومثل هذا الشعور المستجد ليس مستهجنًا إن كنّا نعتقد بأنّ الدفاع والمقاومة ليسا مشروطين بإذن الفقيه أو المرجع.
الأسلوب الانفعالي وطريقة ردة الفعل تجاه المعارضين في الداخل ارتدت في النهاية على المؤمنين بولاية الفقيه، بحيث صار طرح هذه القضية اليوم يبدو خارجًا عن السياق أو يظهر كترفٍ فكري تعيشه جماعة منعزلة عن الواقع! ولاية الفقيه لا تحضر في أدبيات المقاومين الجدد كما كان الأمر عليه عند المقاومين الأوائل، وخصوصًا الشهداء منهم الذين ربما لم تكن تخلو وصاياهم من التأكيد على الالتزام بهذا المبدأ.
هدفنا من هذا العرض هو أن نبحث مجددًا في العناصر التي تضخ القوة والحيوية في حراكنا الكبير الذي لم يزدد إلا اتساعًا وانتشارًا ومواجهةً للتحديات والمخاطر المتعاظمة.
وجود الإيمان وحده غير كاف. الذين يتحدثون عن هذا العنصر كأساس لأي تحرك أو جهاد عليهم أن يعيدوا النظر فيما يقولونه، حتى لا يكون القول تبسيطًا مضللًا. الإيمان الذي يذكره هؤلاء أو الروحية التي يتحدثون عنها باعتبار أنّها سر القوة والمقاومة والبطولة والتحديات يجب أن يتذكروا معها أنّ أي جماعة مهما امتلكت من إيمان إن لم يكن لديها أطروحة للحياة والمصير والنظام والحكم والمجتمع فسوف تواجه عقبات كأداء لا يمكنها الخروج منها بنجاة لمجرد أنّها تمتلك الإيمان والروحية المقاومة.
ما بعث الإيمان الإسلامي الأصيل في المرحلة الأولى من الثورة والمقاومة هو وجود مثل هذه الأطروحة الاجتماعية السياسية التي نعتبرها إحدى أعظم تجليات الإيمان نفسه.
سر الإيمان ليس في المشاعر، مهما كانت هذه المشاعر جياشة ومتأججة، بل في وعيه الذي يربطنا بالخالق العزيز الجبار وبولايته التي ظهرت في دينه وكتبه ورسله والأوصياء الذين حملوا مشروع إصلاح العالم. أي إيمان لا ينبع من هذه المعرفة والوعي هو إيمان لا يمكن أن يتجاوز ما تواجهه أي حركة تحررية تقدمية من تحديات ومصاعب وبلاءات وفتن.
الإيمان الواعي البصير، الذي يدرك طبيعة حضور الله في العالم، فيتفاعل مع هذا الحضور ويزداد رسوخًا في القلب. هذا هو الإيمان الذي أشار الله إليه حين قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ}.[1] ذلك لأنّ قضية الحكم والقيادة والإدارة والمجتمع هي أكبر قضية يتجلى فيها حضور الرب المتعال، فتصبح فرصة عظيمة لتفعيل الإيمان في القلوب والوصول به إلى أعلى الدرجات والمراتب.
كان الزخم الأول عند الشريحة التي آمنت بأنّ ولاية الفقيه هي الأطروحة الإسلامية المتميزة عن الشرق والغرب بزيتونتها المضيئة ولو لم تمسسها نار الأفكار الهجينة. وهذا الزخم هو الذي بث في بقية الشرائح ذلك العزم المطلوب للثبات وبذل المهج. لكن لأسباب وعلل لم تتمكن هذه الشريحة من ترسيخ أطروحتها هذه ومن تحويلها إلى مشروعٍ كبير يدعو الجميع للانضمام إليه، ففقدنا من العزم والقوة ما كنّا نحتاجه في مثل هذه التحديات التي تتطلب ما هو أكبر من القتال والمواجهة المباشرة.
[1]. سورة المائدة، الآية 44.
ولاية الفقيه ظل الحقيقة العظمى
جمع وتبويب لأهم كلمات وأفكار كل من الإمام الخميني والإمام الخامنئي حول ولاية الفقيه والنظام السياسي الإسلامي على مدى مراحل الثورة والنضال وإلى يومنا هذا. نتعرف إلى هذه النظرية من اصولها إلى فروعها المختلفة ضمن هيكلية تساعد على فهم النظرية وأبعادها السياسية. ولاية الفقيه ظلّ الحقيقة العظمى الكاتب: الإمام الخميني والإمام الخامنئيترجمة وإعداد: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 14.5*21.5 غلاف ورقي: 312 صفحة الطبعة الأولى، 2011مالسعر: 6$
دور ولاية الفقيه في النهضة الإيمانية
في البدايات كان هناك نوع من الأفكار المنتشرة بين المتدينين مع قلة عددهم مفادها أنه لا دخل لنا بالأمور السياسية.ما جعل الأوساط المتدينة عمومًا خامدة وبعيدة عن التحديات الكبرى. كانوا يجدون لأنفسهم مبررات فكرية وشرعية واعتقادية للقعود. وحين عرض الإمام الخميني قضية ولاية الفقيه وبيّن أنها مسألة بديهية وضرورية وأنها تنبع من الاعتقاد بالإمامة، وبيّن أنّ إقامة الحكومة الإسلامية هو تجسيد للإسلام وأنّ الإسلام بدون حكومة لا معنى له؛ وجد هؤلاء المتديّنون أنفسهم أمام مسؤوليات كبيرة لم يعهدوها من قبل؛ مسؤولية ترتبط بالأمة لا بل بالعالم كله. فالمسألة لم تكن قضية عادية بمعنى أنّنا كنّا نتحرك ونواجه ونتحمل المسؤوليات والآن أصبح لدينا قيادة حكيمة. لا،؛ بل كانت أشبه بالانتقال من الموت إلى الحياة.
أين أصبحنا من ولاية الفقيه اليوم؟ هل خمد البحث عن ركن التغيير الأكبر؟
يُقال إنّ طرح الإمام الخميني لمبدأ ولاية الفقيه كان بمثابة الشرارة الكبرى في استعار الثورة ونفخ لهيب النضال والعمل الثوريّ وتحويله إلى حركة رشيدة وأصيلة. ولا يشك أحد بأنّ هذه الثورة ـ التي أطلقت العنان لأوسع عملية تغيير لمنطقتنا، بل للعالم كلّه ـ قد ارتوت من منبع ولاية الفقيه، وأقامت نظامها السياسيّ عليه. فالصديق والعدوّ يعترفان بأنّه لولا هذا المبدأ الذي اتّصل بعقائد الموالين، لما كان لهذه الثورة مثل هذا الثبات والنضج والاستحكام.
كيف تصبح ولاية الفقيه قيمة عالمية؟
ولاية الفقيه هي حاكمية العالِم بالشريعة، الذي يُفترض أن يكون عادلًا ورعًا مدبّرًا حكيمًا. وإذا التفت الناس إلى أهمية شريعة الله وعظمتها، فمن لن يقبل بولاية الفقيه هذه؟!
هل من جديد حول ولاية الفقيه؟
إنّ فهم الدين الإلهي لا يمكن أن يتحقّق بدون فهم أهدافه؛ فمهما عرفنا من أحكامه ومبادئه من دون أن نعرف غايته وآماله نزداد جهلاً بما عرفناه؛ فالغاية القصوى للدين هي التي تعطي الأحكام والتعاليم روحها وأبعادها الحقيقية؛ وبعبارةٍ جامعة إنّ البعد الغائي لأحكام الدين هو الذي يجعلها مرضيّة عند الله وفيه تتمّ النعمة.
كيف كان الاعتقاد بولاية الفقيه تثبيتًا للإيمان؟
كيف ترتبط ولاية الفقيه بحقيقة الإيمان بالله؟ وما هو حكم من أنكر هذه القضية؟ وكيف تكون ولاية الفقيه تثبيتًا لمبدأ الإمامة في الحياة؟
ولاية الفقيه، أسئلة حساسة
إذا كان الولي الفقيه واجب الطاعة، فكيف نسلم زمام امورنا وانفسنا لمن لا يكون معصومًا؟ إذا كان مبدأ ولاية الفقيه قضية أساسية، لماذا لم نسمع به قبل مجيء الإمام الخميني؟
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...