
حول قضية الحجاب في المجتمع المسلم
لماذا لن تنجح الإجراءات مهما كانت متشددة
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب كيف أحيا مسلمًا وأعيش سعيدًا
تصور أنّك التقيت بامرأة سافرة لا تعرف عن الإسلام والدين شيئًا، لكنّك باشرت بإقناعها بضرورة الحجاب. سيبدو الأمر مستهجنًا جدًّا لمثل هذه المرأة، فهي لا ترى في سفورها أي مشكلة، وتعتبره شيئًا طبيعيًّا اعتادت عليه منذ طفولتها، وهي تؤمن بأنّ المساواة بين الرجال والنساء تقتضي أن يرتدي كلٌّ منهم ما يروق له، وأنّ للمرأة الحرية في اختيار ما تريد كما الرجل.. ولأنّها لا تدرك العلاقة بين الإيمان بالله تعالى من جهة وبين وجود الشريعة والدين الإلهي من جهةٍ أخرى، فهي لا تتصور أنّ الله يوجب على النساء هيئة خاصة من اللباس والمظهر، و...
إن كان الحجاب بمعناه الدقيق يمثل تمامية الالتزام الديني تجاه الله تعالى، فإنّ هذه العلاقة التي تربط الإيمان بالحجاب قد لا تكون واضحة بالنسبة للكثير من الناس؛ فكيف إذا كان هؤلاء الناس يعيشون عقدة معينة في قضية الإيمان!
قد يكون المظهر الديني هو آخر ما يلتزم به المؤمن بالله تعالى، وبه يكمل تدينه والتزامه. لكن الربط بين الإيمان والمظهر يمر بعدة حلقات من السلسلة.
ربما لن نجد عالم دين واحد يمكن أن يقول بأنّ ارتداء المرأة للحجاب هو بنفس مستوى الإيمان بالله تعالى، وذلك من حيث الأهمية والخطورة. لقد أجمع علماء المسلمين على أنّه لا يوجد قضية تضاهي قضية الإيمان بالله. فما ينجي الإنسان في الآخرة هو الإيمان لا غير، وكل الأعمال الأخرى تكون تابعة له. بين قضية الإيمان بالله وقضية الحجاب مسافة كبيرة تتوزع عليها مجموعة كبيرة من القضايا. قد يتصور البعض أنّ هذه المسافة قصيرة، ربما لأنّه قطعها بسرعة أو لم يرَ ما عليها.
لو قُدّر لنا أن نحدد القضايا التي يجب على الإنسان أن يهتم بها، ثمّ قمنا بترتيب هذه القضايا من حيث الأهمية، وأعطينا الانسان المبتدئ الفرصة الكاملة للتعرف إليها والاعتناء بها، فقد لا يكون غريبًا إن تطلّب الأمر بالنسبة للبعض عمرًا كاملًا للانتقال من أهم القضايا إلى أقلها أهمية. وهنا قد يصل هؤلاء إلى الحجاب في آخر الطريق.
ما يجعل الحجاب كالبديهيات في المجتمعات المسلمة ـ حيث ترى المسلمين يعظمونه كما يعظمون الإيمان بالله تعالى أو أكثر ـ هو تلك العوامل التاريخية والعرفية المستحكمة أكثر من قضية المعرفة بمنظومة القيم الدينية. حتى الإسلام نفسه لم يجد صعوبة في إقناع العرب حين أسلموا بالحجاب، وذلك لأنّهم كانوا في الجاهلية على شيءٍ كبيرٍ منه. حجاب المرأة وسترها واستتارها كان جزءًا أساسيًّا من أعراف العرب. لكن لو قُدّر لنا أن نبدأ مع مجتمع لم يعرف الحجاب منذ مئات السنين، وكان هذا المجتمع بعيدًا كل البعد عن الدين والإيمان، فلربما كنّا سنحتاج إلى وقتٍ طويل حتى نصل بهذا المجتمع إلى الالتزام بالحجاب. يصبح الأمر أشد صعوبة هنا إذا كان هذا المجتمع يعيش حالة من الرفض المتعمَّد للحجاب، وذلك إذا كانت قد ترسخت فيه بعض القيم التي لا تنسجم في النهاية ولا تلتقي مع قيم الحجاب الإسلامي كالحياء والعفة والستر.
هناك ثلاثة أنواع من المجتمعات في العالم فيما يرتبط بالحجاب. مجتمعات تتماهى مع الحجاب ولا تعيش معه أي عقدة. ومجتمعات لا تفكر في الحجاب ولا تعتبره قضية ذات بال. ومجتمعات ترفض الحجاب وتعتبر قضيتها محاربة الحجاب.
قد يكون هناك بؤر من النوع الثالث تعيش وسط مجتمع من النوع الأول. تتشكل هذه البؤر في الغالب نتيجة عوامل اجتماعية سياسية ترتبط بالاختراقات التي تقوم بها المجتمعات من النوع الثالث. تصبح هذه البؤر أشبه بالأقليات الدينية، كما يكون حال المسيحيين في المجتمع الإيراني أو المصري. ليس من الضروري أن يكون أفراد هذه البؤر متجاورين في السكنى والتواصل؛ ربما يحصل التشابه بينهم نتيجة تبني أفكار وتوجهات واحدة. هذا ما يحصل كنتيجة للتواصل الثقافي مع المجتمعات الأخرى في عصر الشبكة العالمية. هناك الكثير من الأفراد الذين يعيشون في المجتمعات المسلمة لكنّهم لا يرتوون من ثقافة مجتمعهم أبدًا. تراهم منذ الطفولة يتعلمون في مدارس أجنبية، ولا يشاهدون سوى القنوات الأجنبية، ولا يتواصلون إلا مع أفراد من سنخهم وثقافتهم. قد يكون شخصًا إيرانيًّا يعيش في طهران لكنّه لا يعرف عن تاريخ بلده ولا ما يجري فيه شيئًا. يكبر هذا الشخص، ويتزوج من سنخه، وينجب ويربي على أساس ثقافته؛ ويكبر أولاده ويفعلون الأمر عينه؛ هكذا تتشكل البؤر الثقافية داخل المجتمعات.
الغربة التامة عن الثقافة والقيم الإسلامية تحصل داخل المجتمعات المسلمة دومًا. نلتقي بأمثال هؤلاء كل حين. لا نشك بأنّهم لا يعرفون عن الإسلام والدين شيئًا.
تقتضي الحكمة والقواعد الشرعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتدرج الداعي من الأهم فالأهم، ومن الأمثلة التي تُضرب في هذا المجال أنّه إذا كان فاعل المنكر يقوم بالسرقة والقتل، فالأولى أن تنهاه عن القتل، لأنّه أشد قبحًا وجرمًا.
هنا تبرز مشكلة حقيقية عند المهتمين بإصلاح المجتمع تتعلق بالتوافق على ترتيب القبائح من حيث الخطورة والسوء. للوهلة الأولى قد تتصور أنّه لا يوجد أي اختلاف في ترتيب الأولويات حيث تأتي قضايا العقيدة أولًا، ثم تليها قضايا القيم، ثم السلوكيات والأفعال. قد يقع الاختلاف في دائرة كل واحدة من هذه الأولويات.
لنفترض جدًلا أنّ شخصًا ما كان كافرًا مرائيًا وسارقًا أو مرابيًا. ولم يكن بإمكانك سوى أن تنهاه عن منكرٍ واحد. فأيُّ منكرٍ تختار؟
لا يشك أحد بأنّ الكفر بالله العظيم هو أشد وخامة وقبحًا من الرياء، وأنّ الرياء والرذائل الأخلاقية أشد وخامة من الذنوب والمعاصي العملية كالسرقة والربا. ولكن هل يوجد توافق على ترتيب السلوكيات القبيحة من حيث القبح؟
هنا تبرز المشكلة حين يبدأ الكلام حول تنظيم قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل المجتمع. فقد تجد البعض يقول بأنّ قضية السفور وإن لم تكن بخطورة الكفر والربا والغش والسرقة، لكنّها تصبح أخطر لكونها تفتح الباب أمام جميع أنواع الموبقات؛ فيجب علينا أن نحاربها بكل قوة. في مثل هذه الحالة نجد أنّ الذهن العرفي والاستحساني يغلب. حين نفقد التصوُّر الصحيح لمنظومة القيم فسوف نلجأ إلى ما نراه نحن قبيحًا أو حسنًا بحسب العادة.
يوجد مسلمون إذا قلت لهم أنّ فلانًا يرابي ويأكل أموال الناس بالباطل، وأنّ فلانة سافرة وتظهر مفاتنها، فإنّهم سيتألمون أشد الألم مما تفعله فلانة في الوقت الذي لن يشعروا بشيء تجاه فلان. ما زلتُ أذكر قصة ذلك العالِم الذي أُغمي عليه حين سمع أنّ النساء بدأن يركبن الدراجات النارية خلف الرجال، في الوقت الذي كان الملك يقدم البلاد كلها والشعب للأعداء ولم يظهر منه أي موقف مشابه. هل لأنّه اعتاد على النظر إلى قبحٍ واحد، أو لأنّه لم يعش أو يرَ قبح الربا. فالربا أمرٌ اجتماعي لا يُرى أو يُلحظ بالعين المجردة، بخلاف إظهار المرأة لمفاتنها. لماذا يقدر البعض على ملاحظة الآثار الوخيمة للسفور على صعيد تفكك الأُسر وضياع النسل ولا يقدرون على ملاحظة الآثار الفظيعة للربا، رغم ما قيل بشأنه بأنّه أخطر من الزنا بالمحارم في بيت الله الحرام!
الذين لم يتعرفوا إلى منظومة القيم الإسلامية ولم يتمكنوا من ترتيب القبائح والمحاسن بحسب أهميتها وخطورتها وفق الرؤية الدينية والآثار الاجتماعية، فمن الطبيعي أن يلجأوا إلى ما رأوه وعاشوه ضمن نطاق تجاربهم الخاصة. أشك بأنّ أمثال هؤلاء بصدد اكتشاف شيء اسمه منظومة. التجزئة والتفريق والتشتت هي نتاج حتمي للمنهج الحسي والرؤية الفردية.
لو كانت ثقافتنا قامت على أساس الكشف عن القيم الدينية في الحياة الاجتماعية، ولو كان لدينا تراث مبني على هذا النوع من التفكر والنظر الاجتماعي، لما احتجنا إلى الكثير من الجهد لإقناع هؤلاء بأنّ الربا وسوء الإدارة أسوأ بكثير من السفور وعدم الحجاب.. مشكلة الذهن المسلم الحالي أنّه تشكل على مدى العصور وسط ثقافة لم تكن تلحظ الأبعاد الاجتماعية والسياسية للقيم الدينية. ولذلك من الطبيعي أن يثير أصحاب هذه الذهنية عاصفة شديدة من الاستنكار حين تنتشر ظاهرة السفور في المجتمع، ولا نلحظ منهم أي رفض أو استنكار لظاهرة سوء الإدارة والتدبير والتي تُعد الأكثر وخامة بدرجات. ما ينجم عن سوء التدبير من مفاسد أكبر من أي شيء آخر. المثل الشعبي البسيط الذي يقول بأن المال السائب يعلّم الحرام، ليس مثلًا بسيطًا أبدًا. إن سوء الإدارة هو أصل أصول جميع الموبقات التي يمكن أن يُبتلى بها أي مجتمع. ومع ذلك تنعقد المؤتمرات ويعلو الضجيج على ظاهرة السفور أكثر بكثير ممّا يُقال بشأن سوء التدبير.
المجتمع الذي يريد حل مشكلة تزايد السفور والاستخفاف بالحجاب الإسلامي يحتاج إلى التدرج وفق منظومة القيم. من المستحيل أن ينجح هذا المجتمع في القضاء على هذه الظاهرة القبيحة ما لم يتمكن من القضاء على الظواهر الأكثر قبحًا. هنا لن تنفع كل القوانين والإجراءات، بل لن تزيد الأمر سوى وخامة وتعقيدًا.
يتصور البعض أنّ التعامل مع قضية الحجاب أيسر وأسهل من التعامل مع قضية الإيمان والكفر، لأنّ الحجاب أمر مرئي يمكن تحديده، بينما الإيمان قضية قلبية باطنية. هذا اشتباه وخطأ فظيع.. قضية الإيمان، بالإضافة إلى أهميتها الفائقة وأولويتها على سائر القضايا، يمكن تحديدها وتشخيصها بآثارها الكثيرة. وكذلك الأمر فيما يتعلق بقضية القيم التي تقوم عليها مسألة الحجاب. لكي يصل المجتمع إلى الحجاب الإسلامي يجب أن يترسخ فيه الإيمان بمجموعة مهمة من الحقائق الكبرى وتبني مجموعة من القيم. وفي غير هذه الصورة، فإنّ الذين يعملون على محاربة ظاهرة السفور لن يصلوا إلا إلى الفشل.

الإسلام كما عرفته وآمنت به
هذا الكتاب مساهمة في ترسيخ حوار القيم والمشتركات في زمن يبحث فيه الجميع عن التلاقي. ولا شيء أفضل في هذا المجال من إظهار بعض جمال ما نؤمن به ونعتنقه. الإسلام كما عرفته وآمنت به الكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتبحجم الكتاب: 14*21غلاف ورقي: 198 صفحةالطبعة الأولى، 2017مللحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراؤه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:

كيف أحيا مسلمًا وأعيش سعيدًا
في عالم اليوم حيث تتلاقى الحضارات وتتصادم الثقافات، تبرز الأديان كمحور أساسي في كل هذا التفاعل. وما أحوجنا إلى تقديم ثقافتنا الأصيلة في بعدها العملي المعاش الذي يطلق عليه عنوان نمط العيش.وفي هذا الكتاب سعى المؤلف إلى عرض القيم الإسلامية المحورية في قالب الأسلوب والنمط الذي يميز حياة المسلم الواقعي الذي ينطلق من عمق إيمانه والتزامه بمبادئ الإسلام وقيمه السامية. كيف أحيا مسلمًا وأعيش سعيدًا الكاتب: السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 14*21غلاف ورقي: 288 صفحة الطبعة الأولى، 2019مISBN: 978-614-474-037-8 السعر: 12$

لماذا الحجاب الإسلامي؟ وما هي مخاطر إظهار الجسد
إنّ فلسفة الحجاب تنشأ من فهمنا للجنس والإنجاب وإدراكنا لفلسفة الحياة الاجتماعية على الأرض.

الحجاب بين الحياء والتهتّك.. متى يكون الحجاب سفورًا؟
يبدو أنّ التّركيز الإعلاميّ على ظاهر "الحجاب" قد سمح للكثيرين أن يتلاعبوا به ويحوّلوه إلى عاملٍ مضادٍّ لحقيقته. فالحجاب بحسب المصطلح الشائع هو ذلك الغطاء الذي يكمّل عمليّة إخفاء تفاصيل البدن باللباس، ولذلك صار أمرًا مختصًّا بالنساء.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...