
الاقتصاد الحقيقيّ
من منّا لا يحلم باقتصادٍ مزدهر يحقّق أعلى درجات الرّفاهية!
السيّد عبّاس نورالدين
تصوّر أنّك تعيش في بلدٍ لا يهمّك فيه تحديث سيّارتك ولا تلفازك ولا هاتفك ولا أجهزتك الإلكترونيّة!
وتصوّر أنّك لا تعيش همّ كلفة الطّاقة التي تحتاج إليها لاستعمال سيّارتك وأجهزة التدفئة والتبريد وما لا يحصى من الآلات والوسائل!
قد تقول إنّ هذا هو رجوعٌ إلى العصر الحجريّ؛ لأنّ نمط العيش اليوم يفرض علينا تحديث أجهزتنا باستمرار، بالإضافة إلى تأمين تكاليف الطّاقة المختلفة. فكيف سنتمكّن من متابعة الكثير من تفاصيل الحياة ومتطلّباتها، بل كيف يمكن أن نعيش أصلًا!
لكن ماذا لو قلت لك أنّك قد تنعم بحياةٍ رغيدة مفعمة بالهناء والسّعادة وراحة البال بعيدًا عن كل هذه التكنولوجيا ولوازمها! وماذا لو قلت لك أنّ هناك الكثير من الأمور الجميلة في الحياة والتي لا تحتاج إلى أي واحدة من هذه التكنولوجيّات! فهل سترفض هذه الحياة؟
أشكّ بذلك! لأنّ هذه التكنولوجيا، التي ابتكرها الإنسان، بالنسبة لكلّ عاقل ليست سوى وسائل من المفترض أن تحسّن حياته؛ فهي في النهاية وسائل لا غايات. فإذا كنّا عقلاء كفاية، ينبغي أن نكون غائيّين هادفين تابعين للهدف الحقيقيّ للحياة، نحاكم كلّ شيء على أساسه. والاقتصاد هو وسيلة أو نظام ينبغي أن يكون في خدمة ذلك الهدف الأسمى.
الاقتصاد الحقيقيّ أو النّظام الاقتصاديّ العقلائيّ هو الذي يزيل هموم تحصيل المعاش وشؤونه عن كاهل الناس (من عمل ومستلزمات الحياة الكريمة)، من دون أن يزيل من أذهانهم الاهتمام والسّعي والجدّ؛ ذلك لأنّ الهدف الأسمى للنّظام الاجتماعيّ المثاليّ هو أن يحصل النّاس على كل ما يمكن أن يحصلوا عليه من إمكانات وفرص ليكونوا سعداء كاملين يتمتّعون بكل الجمال المبثوث في الوجود. وهذا يعني التفرّغ للآخرة والسّعي نحوها، باعتبار أنّها محل ومكان هذا التمتّع، ولو كان ذلك عبر الاهتمام والعمل الاقتصاديّ وغيره.
الاقتصاد الفاشل هو الذي يدخل النّاس في دوّامة السّعي الاقتصاديّ ويجعلهم أسرى الهموم المعيشيّة، وإن وفّر لهم الكثير من الثّروة. فلا شيء أهنأ للإنسان من تفرّغه لحياته المعنويّة، بما فيها من غنًى وثراء لا حدّ له (كالعبادة والتعلّم والسّير في مراتب الوجود والاستمتاع بجمال الكون).
ما نفهمه من تعاليم الإسلام وأصوله القيميّة هو أنّ في الأرض والسّماء كل ما يحتاج إليه النّاس، ولو بلغوا عشرات المليارات. لكن تصوّرهم للحياة ونمط العيش واعتقاداتهم الخاطئة بشأن الوسائل التي توفّر لهم العيش الهنيء، هو الذي يتسبّب بنشوء أنظمة اقتصاديّة فاشلة، لا تؤدّي إلّا إلى المزيد من التّخبّط والكدح المجهد والسّعي المهلك.
إنّ النسبة الأكبر من العمّال والموظّفين في العالم ليسوا سعداء في أعمالهم ومهنهم هذه، التي لا تنسجم مع متطلّبات الكرامة والسّلامة والصحّة النفسيّة والجسمانيّة. لكن الرّضا الذي يشعرون به من حينٍ إلى آخر، إنّما يتولّد من مقارنة أوضاعهم الحالية بأوضاع وأحوال من لا شغل ولا وظيفة له البتة. ولو قُدّر لهم أن يؤمّنوا رزقهم بغير تلك الأعمال والمهن لتركوها إلى غير رجعة! (تصوّر أنّك تصرف جلّ جهدك وأنت تعدّ المال في بنك أو تتابع شؤون تعداد النقود وتكديسها وحفظها). يا لها من حياة.. اللهمّ لك الحمد.
وهكذا يضيّع الإنسان الفرصة الوحيدة التي يمتلكها في هذا العالم لبلوغ أعلى منازل الكرامة والكمال، ويفقد الكثير من فرص الاستمتاع بالحياة المفعمة بالمعنويّات والمعاني الجميلة.
هناك من تحرّر من متطلّبات الحياة التكنولوجيّة، التي أفضّل أن أسمّيها الحياة الغربيّة (لأنّ التكنولوجيا كانت مع الإنسان منذ القدم). فالتكنولوجيا ينبغي أن تكون وسيلة لتحقيق تلك الحياة المتناسبة مع كرامة الإنسان وعلوّ شأنه، ولا ينبغي أن تحدّد نمط عيشه أو تفرض عليه مزيدًا من الكدح.
صحيح أنّ الكثير من النّاس يشترون أجهزتهم التلفزيونيّة بما يعادل جزءًا بسيطًا من المجهود الذي يبذلونه في العمل (تساوي ساعة عملهم عشرة يورو ويكون ثمن الجهاز خمسمئة يورو) حيث يعملون خمسين ساعة لتوفير ثمن هذا الجهاز. إلّا أنّ القضيّة لا تنحصر بثمن هذا الجهاز، فهناك كلفة الطّاقة الكهربائيّة أيضًا وما هو أخفى وأدهى.
دعني أصوّر لك هذا الشيء الأدهى بعبارات مختصرة، فربما يساعدك ذلك على تصوّر هذه الحياة التكنولوجيّة الغربيّة أكثر.
لو تفكّرنا جيّدًا لعلمنا أنّ السّعي الاقتصاديّ لشراء التّلفاز لا يتوقّف عند تأمين الجهاز وطاقته الكهربائيّة، بل هناك كلفة التّعليم المرتبط بهذه التكنولوجيا (لأنّ التعليم أصبح متوجّهًا نحو هذه التكنولوجيا وبيئتها) وهي كلفة باهظة جدًّا تتطلّب الكثير من العمل وبذل الجهد. فأنت تدفع ما يساوي عشرات آلاف اليورو مقابل تعليم أبنائك هذه التكنولوجيا (ولو كان ذلك بطريقة غير مباشرة وعبر الحكومة التي ستأخذ منك هذا المال بطريقة أخرى، ولهذا حكاية تفصيليّة)، وهناك كلفة الصحّة والتّأمين الصحّي المرتبط بحوادث وآفات هذه التكنولوجيا (التي تصل أيضًا إلى عشرات آلاف اليورو).
فأنت لا تنفق مقابل جهازك وما يستهلكه من طاقة، بل تدفع مقابل كل هذه التكنولوجيا التي تحيط بك والتي اخترتها كنمط عيش. وحين لا تقدر على تأمين مستلزمات هذا العيش التكنولوجيّ الغربيّ بسهولة، فعليك أن تختار العمل الذي يمكن أن يؤمّن لك هذه المستلزمات. وغالبًا ما يكون هذا العمل تابعًا لمستلزمات التكنولوجيا نفسها، فتدخل في هذه الدوّامة التي لا تعرف الخروج منها. إنّها دوّامة خبيثة تستهلك طاقتنا الأساسيّة التي نحتاج إليها لأجل الاستمتاع بما هو أفضل وأجمل بكثير.
ولكن هل توقّفت قليلًا وفكّرت ما هي الأمور الجميلة الرّائعة التي حُرمت منها بسبب اختيارك لنمط العيش الغربيّ؟
وماذا تتوقّع الحكومات من إنجازات اقتصاديّة حين تختار نمط العيش الغربيّ؟
هذا ما سنتحدث عنه في مقالات مقبلة إن شاء الله.

معيشتنا تحدّد مصيرنا
أجل، معيشتنا تحدّد مصيرنا الأبديّ. فقليل من التأمّل في تحدّيات العيش في الدنيا يجعلنا ندرك كم هي عميقة هذه القضيّة وكم هي مرتبطة بقضايا الكون الكبرى.

تعالوا نرتقي بهمومنا
لما كان الهمّ نابعًا من الاهتمام الممتزج بالقلق، ولمّا كان الهمّ أمرًا طبيعيًا في سنّة الكون ونظام الحياة الدنيا، فسوف يكون عنصرًا مفيدًا إن ارتبط بالنظام الكوني الأعلى.

الطريق الصحيح لتأمين المعيشة : كيف نتجنب فتنةً لا تصيب الذين ظلموا خاصّة؟
تحفل النّصوص الدّينيّة بالتّصريحات والإشارات الهادية إلى حياة الكفاف والغنى والنّجاة من الحرمان والفقر. وأوّل دلالات هذه النّصوص (من آيات وأحاديث وأدعية) هي أنّ الله تعالى لا يريدنا أن نعيش في حالٍ من العوز والهمّ المانع من تحصيل الفضائل والسّعي نحو الكمال وبلوغ المقصد الأعلى في ظلّ عبادة الله.وباختصار، لا يمكن مع كلّ هذه الشّواهد أن يظنّ المسلم أنّ الفقر أمرٌ جيّد أو مقبول في الدّين والرّؤية الإسلاميّة، حتّى أنّه قد ورد في بعض الأحاديث "كاد الفقر أن يكون كفرًا".

همومك تحكي من أنت
الهموم والهواجس وما يصاحبها من حيرة وقلق أمور تنشأ من طبيعة تواجدنا في هذا العالم المتحوّل والمتبدّل. جهلنا بالمستقبل وصعوبة إدراك الغيب تولّد فينا الهمّ والاهتمام. فكل قضايانا وشؤون حياتنا قابلة للتحوّل والتغير، مهما كانت الضمانات التي حصلنا عليها بشأنها. فلا أحد يمكنه أن يجزم بأنّ أوضاعه المالية ستبقى هكذا إلى نهاية العمر.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...