فرصة الأحداث الكبرى المميزة
لماذا يجب إنتاج الخطاب

السيد عباس نورالدين

غالبًا ما تكون الأحداث الكبرى ـ خصوصًا ذات الطابع التهديدي ـ فرصة مهمة للتعرف إلى عنصرٍ محوري في حركة المجتمعات والنهضات، وهو أمر قلما يُشار إليه في ساحاتنا الثقافية، يمكن أن نطلق عليه إنتاج الخطاب.
 ولعل المقصود من هذا المصطلح هو تلك الأدبيات والأفكار التي تظهر أبعاد قضيةٍ ما في الواقع المعاش، خصوصًا إذا كانت مرتبطة بالقيم والمبادئ الأساسية لأي جماعة بشرية. لكن تحول هذه الأدبيات إلى مستوى الخطاب يتطلب شيوعًا يظهر على الألسن والأذهان والشعارات.
بينت الأحداث الأخيرة المرتبطة بالحراك قدرة مميزة لليسار اللبناني في الاستحواذ على جانبٍ مهم من أدبيات محاربة الفساد؛ أرجعه البعض إلى مبادرتهم في هذا التحرك وسيطرتهم على بعض الساحات والوسائل الإعلامية المميزة، مدفوعين بحماسٍ ناشئ من تهميشٍ مستمر. ورغم قلة عددهم، فإنّ امتلاكهم لخطاب ـ تشكل على مدى أكثر من قرن من الزمان ـ هيأهم لتحقيق مثل هذا الحضور الذي سيكون عاملًا مهمًّا في تضخيم الحجم.
ليس هدفي من هذا الكلام الاعتراض والاختلاف مع اليسار، فإنّي صاحب نزعة قوية إلى البحث عن كل المشتركات حتى مع الخصوم، وذلك من أجل البناء عليها للالتقاء بدل الافتراق؛ لكن أود أن أسلط الضوء على ظاهرة مهمة في أيّ حراكٍ اجتماعي تقدمي، وهي ظاهرة الخطاب وإنتاجه ودوره في تقوية الموقف وتحقيق الأهداف.
أتذكر هنا كيف تم التعرض للإمام الخميني واتّهامه بالشيوعية لأنّه كان العالم الوحيد في زمانه الذي يزور القرى الفقيرة ويجول بين أحيائها ويلتقي بأهلها المعدمين ويطّلع على أحوالهم؛ وذلك طبعًا قبل انطلاقة الثورة التي انتصرت بعد حوالي خمس عشرة سنة. فما هو سبب هذه التهم التي تُوجَّه إلى عالم دين يتمتع بموقعية علمية رفيعة في الحوزة، سوى أنّ مثل هذا النوع من الحراك كان مورد شبهة. والشبهات في المجامع العلمية إن لم تكن بسبب معارضتها للمشهور من الأحكام الشرعية، فهي تنبع من الغرابة والاستهجان والبدعة؛ أي إنّ الإمام الخميني كان في تحركه هذا يخالف المشهور الشائع في تلك الأوساط، وهو أنّ رجل الدين يُزار ولا يزور (وهي العلاقة التي ترسخت بين العالم والعوام على مدى القرون). ولكن الأمر الأكثر عمقًا هنا والذي يكشف عن خلفية أخرى، هو أنّ الحديث عن الفقر والفقراء في ذلك الزمان كان قد أصبح أحد أهم مختصات الأحزاب الشيوعية الإيرانية.
وبالرغم من أنّ ظاهرة الفقر تُعد الأسوأ على المستوى الاجتماعي (بحسب الرؤية الإسلامية)، حيث تنشأ منها كل المفاسد التي يحاربها الدين (كالكفر والفحشاء والجريمة)، لكن الأعمال الفكرية لعلماء الدين لم تكن قد أنتجت من الأدبيات (الدراسات والأبحاث والدروس والمحاضرات والكتب) ما يتناسب مع خطورة هذه الظاهرة وحساسيتها. وفي الوقت نفسه، كانت أدبيات الحركة الشيوعية والاشتراكية العالمية حافلة بالنتاجات المختلفة حول هذه القضية تنظيرًا ورواية وقصة وشعرًا ونثرًا.
وهكذا، يكون البروز والغلبة في الساحات الإعلامية (والمظاهرات من أبرزها) لمن يمتلك الخطاب لا لمن يمتلك القدرة والعدة والعدد. وما لم نكتشف أهمية هذه الظاهرة وكيفية إنتاجها، فسوف تبقى تلك المعاناة التي تنشأ من ازدواجية الانتماء الديني والنظرة السياسية.