دور المدرسة في تقوية الفطرة

السيد عباس نورالدين

لكي يتحرّك الإنسان على طريق الكمال، يحتاج إلى عاملين أساسيين؛ الأوّل تشخيص الكمال الواقعيّ، والثاني الاندفاع نحوه. وقد تكفّل الله تعالى بتأمين هذين العاملين حين نفخ في الإنسان من روحه. فتشعّب هذا الروح إلى هاتين القوّتين المسمّاتين بالعقل والفطرة.
بالعقل يميّز الإنسان الكمال من النقص، ويشخّص الكمال الواقعيّ من الكمال الموهوم. وبالفطرة ينجذب ويندفع نحو الكمال المتصوّر ويسعى لبلوغه. أمّا إرسال الهداة والكتب، فهو لأجل إثارة دفائن العقول واستحثاث الفطرة وتفعيلها.
وفي المقابل، تقف العوامل الشيطانية المختلفة لتزيين النقص بصورة الكمال وتعطيل دور العقل بتغليب الوهم، وحجب الفطرة وإضعافها، عبر إدخال اليأس والقنوط بشتّى الطرق.
والمربّي الإلهي هو الذي يعمل على مواجهة جميع العوامل الشيطانية، المتمثّلة بأنواع التربية الفاسدة والمؤثّرات السلبية والبيئة السيئة وغيرها، وذلك عبر تفعيل دور الرسالة والولاية الإلهية والكتاب السماوي. فإذا نجحت هذه التربية، سيرى المتربّي أنّ العالم كلّه بكائناته وحوادثه ووقائعه هو ساحة تكامله.
إنّ المؤثّرات الشيطانيّة تعمل على تصوير هذا العالم بطريقةٍ تنفّر الفطرة السليمة منه وتدخل اليأس من إمكانية إصلاحه؛ وذلك بالسعي الدائم لجعله بشعًا قبيحًا منفِّرًا. وأولياء الله يعملون على حفظ جمال العالم من خلال حفظ جمال المجتمع البشري، لأنّ الإنسان هو الفاعل؛ وأوّل ما يبدأون به هو تغيير رأس المجتمع وحكومته.
للمدرسة دورٌ كبير على صعيد التأثير على الفطرة والعقل، لأنّها واسطة نقش الصور الذهنية للعالم، بأرضه وسمائه وسكانه وتاريخه وحوادثه وتفاعلاته؛ وهي المحل الأكبر الذي تتشكّل فيه رؤيتنا حول كلّ قضاياه وشؤونه. ففي المدرسة، نتعرّف إلى ظاهرة الفقر والحرب والصراع والكوارث، وفيها نقرأ عن العظماء والمميزين وأنواع الناس، وفيها نبلور أحلامنا وآمالنا للمستقبل والحياة والمصير.
إنّ العالم بكلّ ما فيه، هو ظلّ الجميل المطلق سبحانه، وظلّ الجميل جميلٌ وسائرٌ باتّجاه الجمال المطلق وعائد إلى أصله أيضًا، لقوله تعالى: {كل إلينا راجعون}[i]. فهو عالم يتحرّك نحو الجمال ويغلب فيه الجمال ومظاهره من الحقّ والعدل والحسن والخير والمصلحة، على القبح ومظاهره من الباطل والظلم والشر والضر..
لهذا، فإنّ الدور الأوّل للمدرسة يكمن في تصوير العالم على حقيقته، ممّا يحتّم مواجهة كلّ التصويرات الخاطئة، التي تسلّلت إلى الحياة الاجتماعية عبر تاريخها الممتد، وتسلّلت إلى العلوم الطبيعية وإلى الفكر والتراث الإنساني الكبير. ويجب أن تكون هذه المواجهة حكيمة متناسبة مع دور المدرسة الأوّل في إعداد الفرد وتهيئته ليخوض غمار الحياة كما أراد الله له. فلا يصح أن تهمل المدرسة وجود كل هذه العوامل السلبية في الحياة وتتغاضى عنها كأنّها لم تكن، بل يجب أن تتعامل معها وتعدّ طلّابها لمواجهتها من خلال طرحها ودراستها وتحليلها واستيعابها على ضوء الرؤية الصحيحة. وهذا يعني أنّ على المدرسة أن تعرض لكلّ الرؤى والتصوّرات الخاطئة الشائعة والسائدة في العالم، والتي تعبّر عن نفسها بشتّى الوسائل الإعلامية والفنية والأدبية. ويجب أن تكون المدرسة محلًّا لمناقشة الرؤية الأصيلة، وسجالها مع تلك الأفكار والأطروحات والعروض المنحرفة ذات التأثير الواسع.
وفي هذا المجال، فإنّ تحقيق هذا الهدف التعليميّ التربويّ يتطلّب قبل أي شيء، تفعيل الإنتاج الفكري الأصيل الذي يشكّل المخزون والملهم الأوّل للبرامج والمناهج المدرسية. إنّ إغناء تراثنا الفكريّ، المرتبط بقضايا الحياة، يستلزم التعرّض لهذه القضايا انطلاقًا من أبعادها القيميّة وبلغة أدبية وأساليب جمالية متفوّقة. وإنّ الاكتفاء بعرض الموقف الشرعيّ والحكم الفقهيّ تجاه هذه المسائل لن يؤمّن الحاجة الأساسيّة على صعيد تفعيل دور العقل والفطرة.
نحن كبشر، بحاجة إلى تشخيص الظلم (القبح) في الكثير من القضايا التي استجدّت، مثلما إنّنا بحاجة إلى رؤية العدل (الجمال) فيها؛ ولأنّ شياطين العصر امتهنوا الكثير من أساليب تجميل القبح والبشاعة، وبلغوا في ذلك مستويات لم تكن تخطر على بال، وسيطروا على مساحات واسعة من فضاءات التعبير والآداب ووسائط التواصل، فإنّنا بحاجة إلى ذلك الأدب المتفوّق العميق، الذي يقدر على عرض جميع المسائل القيميّة بأجمل الأساليب والوسائل.
كم نفتقر إلى تلك النصوص الأدبيّة الراقية، التي تناقش الانتحار والشذوذ والعربدة والفنون المتحلّلة، وتتمكّن من تعريتها وكشف كلّ البشاعة الموجودة فيها. وكم نحن بحاجة إلى عرض الحياة الإسلامية الروحية الراقية، بلغةٍ يفهمها الشباب ويستطيعون التعبير عنها بمختلف الأساليب.
لكلّ قضية في الحياة بعدها القيميّ. فالشذوذ يرجع إلى غلبة الحيوانيّة البهيميّة واليأس من التغيير. والانتحار يرجع إلى فقدان الشعور بقيمة الحياة ومعنى الوجود. والعربدة الغنائية والرقصية والموسيقية ترجع إلى فقدان الاتّصال بنظام العالم الجميل المتوازن السامي. وحبّ الدنيا يرجع إلى الغفلة عن جمال الآخرة ونعيمها والجهل بقيمة الإنسان وكرامته. وما علينا إلّا إن نعمّق كل القيم الأصيلة بواسطة أذكى وأقوى البرامج التعليميّة حتى نؤمّن الأرضية الفكرية والمعنوية اللازمة لمناقشة تلك العبثية والشيطنة والفساد والانحراف وإسقاطها والهيمنة عليها؛ على أمل أن نخرّج الأفراد الذين يشعرون بالمسؤولية الكبرى تجاه تغيير العالم وإصلاحه وإنقاذ البشرية من ضياعها وضلالها وسقوطها في الهاوية.

[i] سورة الأنبياء، الآية 93.