كيف نفعّل العنصر الأوّل في التربية؟

هل سمعتم عن الأمل والاندفاع

السيد عباس نورالدين

لا شيء يمكن أن يضاهي دور الأمل والاندفاع والرّغبة في مجال تحصيل الفضائل المختلفة والمهارات العلميّة والوصول إلى الحقائق والمعارف. ومع أنّنا قد لا نشك بهذا العنصر، إلا أنّنا قلّما نلتفت إليه، ويندر أن نجد من يعرف كيفية تفعيله في وسط العملية التعليمية الرائجة. حين يأمل الإنسان بشيء، وتتولّد الرغبة فيه، ثمّ تتحوّل هذه الرغبة إلى مطلب جامح يهيمن على مشاعر الإنسان ورغباته، فمن المستحيل أن لا يسعى صاحبه إليه، وأن لا يبذل كل ما لديه من قدرة وطاقة وسعي من أجل الحصول عليه.
هذا هو الإنسان ـ شئنا أو أبينا؛ فمساعينا هي وليدة رغباتنا الأكيدة، واندفاعاتنا القوية تنشأ من درجة الرجاء والأمل بالوصول إلى مطلوباتنا؛ وما علينا إلّا أن نأمل ونرجو بالخير الكثير والكمال العظيم والفضائل الجميلة والمقامات الرفيعة حتى يتحصّل لدينا ذلك العنصر المحوريّ لبلوغها وتحقيقها.
لا يخلو أي إنسان من أملٍ ما، وإلا ضاقت عليه الحياة بما رحُبت، وانعدمت عنده كل التحرّكات والمساعي. لكن بماذا نأمل وماذا نرجو؟ فهذا هو المهم.
 إنّ أي منهاج تربويّ يسعى للنجاح، يجب أن يسعى لربط أهدافه ومقاصده بهذا العامل الجوهريّ.
إنّ مشكلة التعليم في عصرنا الحالي تكمن بالدرجة الأساسيّة في عدم وجود صلة وثيقة بين الآمال والرغبات من جهة، وبين العلم وماهيّته الحقيقية من جهة أخرى. فإذا ربطنا الرغبات بنتائج وثمار هامشية للعلم أو حتى بغايات غير محمودة فيه، فهذا يعني أنّنا انحرفنا عن مساره الواقعي. ولهذا نحن أمام تحدّيين أساسيين؛ الأول: يكمن في ربط الأمل والاندفاع بالعلم، والثاني يرتبط بتطهير وتصفية مقاصده من كلّ الآثار الهامشية والخاطئة.
بالنسبة للثاني، فإنّ توجيه رغبات التلامذة نحو الشهرة والمنصب والمال والعلامات والتميّز وحتى رضا الكبار، يُعدّ تحريفًا سيّئًا، يهدّد أساس الحركة العلمية السليمة، ويوشك أن يميت التعلّم نفسه.
وبالنسبة للأمر الأول، هناك ثلاث مراحل أساسية ينبغي رعايتها، وفي غير هذه الحالة فنصيبنا الفشل والإخفاق فيما يتعلّق بإيجاد أو تفعيل هذا العنصر الجوهري (الأمل والاندفاع). ومن الملفت أنّ كل هذه المراحل المقترحة تنسجم مع التكوين النفسي والفطري للإنسان. ففي البداية يحتاج التلميذ إلى الاستمتاع بأجواء العلم (لا العلم نفسه)، وفي المرحلة الثانية يحتاج إلى الاستمتاع بالعلم نفسه (الحركة الذهنية والاكتشافية)، وفي المرحلة الثالثة يجب أن يدرك معنى الاتّصال ببحر العلم اللامتناهي.
ليس من الصعب أن نقرن المرحلة التعليميّة الأولى بأجواء مفعمة باللعب والمرح والمنافسة وتفريغ الطاقة بصورة إيجابية؛ هذا، وإن كانت مناهج اليوم ومدارسها بعيدة جدًّا عن هذه القضية، وطواقمها العلمية وأنظمتها الإدارية البئيسة الخائفة عاجزة عن تأمين مثل هذه الأجواء. لكن من المهم جدًّا أن يختبر التلميذ في مراحل التعليم الأولى (وهي غالبًا إلى سن السابعة) تلك الحالات النفسية الصاخبة المتفوّقة بفرحها وسرورها عن كلّ فرح وسرور قد يعيشه أو يجرّبه خارج الجو التعليمي والبيئة الدراسية. وبعبارةٍ أخرى، ينبغي أن نسعى لتأمين أجمل وأمتع الأجواء وسط عملية التعليم بحيث تكون هذه الأجواء أقوى من كل ما عداها تقريبًا. ويجب أن يشعر التلميذ أن تواجده ومشاركته في "التعلّم" يحقّق له أكبر لذّة في حياته. وهكذا يتولّد الاحترام والتقدير والشوق والرغبة في الجوّ العلميّ (كتاب، معلم، دراسة، حل تمارين، مطالعة، ...).
وفي المرحلة الثانية، يجب أن يختبر التلميذ اللذّة الحقيقية التي تحصل جرّاء الاكتشاف (وهو أحد أوضح أهداف التعلّم)، وذلك من خلال ربط الكشف بالعديد من النتائج الطيبة التي تبدأ ببناء الذات وتحسين الحياة وتصل إلى أعلى المراتب التي نعبّر عنها بالعبودية والارتباط بالله تعالى.
للكشف بحدّ ذاته متعة خاصّة، نابعة من الميل الفطري. فنحن لسنا بحاجة إلى خلق هذه اللذة بقدر ما نحتاج إلى ربط ذلك الميل بمقصده وموضوعه ومتعَلَّقه الواقعي. خصوصًا إذا نجحنا في المرحلة الأولى. بَيد أنّ ما يمكن أن يساعد كثيرًا في هذا المجال، تجربة اللذات المعنوية الحقيقية والسامية التي تتولّد جرّاء الكشف، وبالطبع العمل على تطهير الكشف العلمي وتنقيته من كلّ اللذائذ المادية المنحطّة والدنيوية الفاسدة (ولعلّ هذا الأمر أشدّ صعوبة من الأول).
إنّ ارتباط الكشف العلمي بتحسين حياة البشر وإصلاح الأرض وصيانة المجتمع وتقدّمه ومقاومة الغزاة والمستكبرين و.. كل هذا من شأنه أن يساهم كثيرًا في تفعيل الالتذاذ الفطري وتقويته. ويجب أن تحرص برامجنا التعليمية على ربط العلم بهذه الغايات السامية على طريق الارتباط بالغاية القصوى والهدف الأسمى؛ ألا وهو صيرورة الإنسان عبدًا خالصًا لله تعالى.
فإذا نجحت البرامج التعليمية في المرحلة الثانية، ينبغي أن ينفتح الباب أمام قضية العلم الكبرى، وهي قضية الفناء في الله، الذي لا يتحقّق إلا في ظلّ إدراك الإنسان لعجزه المطلق عن أن يحيط بالعلم أو يدرك جوهره. وحين يتّصل العبد بالعلم ويخشع ويعترف من أعماق وجوده بعجزه عن الإحاطة به، يصل إلى مقام الراسخين في العلم الذين {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}،[1]كما وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما ورد في نهج البلاغة : "وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ، الاقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغيْبِ الْـمَحْجُوبِ، فَمَدَحَ اللهُ ـ تَعَالَى ـ اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا، وَسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيَما لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخًا، فاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ".[2]
إنّ المرحلة الثالثة ـ والتي أشير إليها في أحد الأحاديث النبوية الشريفة بأنّها مرحلة يعلم فيها الإنسان أنّه لا يعلم شيئًا ـ هي مرحلة إدراك حقيقة ظاهرة العلم في الوجود ومرحلة التعامل الصحيح مع العلم، حيث ينفتح الإنسان على عالمه اللامتناهي (وهو المتّصل بحقيقة الوجود) ويدرك أنّه أمام نوعٍ جديد من العلم لا يحصل بواسطة الجمع والتكثير والحفظ والمفاهيم والتحديد والتقييد. وهذا العلم هو علم الله الذي من اتّصل به فقد اتّصل بالله ونال شرف القرب من الربّ.
وفي هذا الاتّصال لذّة لا يمكن أن تضاهيها لذّة، وحلاوة ليس فوقها حلاوة، واندفاع لا يمكن أن يشبهه أيّ اندفاع. فقد اتّصل الكيان الإنساني المنذهل المتعجّب المهيّم الواله، ببحر العجائب التي لا انقضاء لها، وعالم الجمال الذي لا قبح فيه، ومقام الألوهية الذي يأله إليه الأولياء الكاملون.   

[1]. سورة آل عمران، الآية 7.

[2]. نهج البلاغة، الخطبة 90.