
حين يكون الكيان السياسي سببًا لتدمير شعبه
لا تخدعنّكم الدول مهما عظم شأنها
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب أي مجتمع نريد
إنّ قيام أي جماعة بشرية بتشكيل دولة ذات كيان سياسي موحَّد يُعد إنجازًا يُعبّر عن اقتدار هذه الجماعة وتمتّعها ببعض الخصائص الحضارية المهمة. لكن مجرد وجود كيان سياسي للجماعة لا يعني أنّها ستتمتع بالرفاهية وتؤمّن السعادة المنشودة لأفرادها؛ بل قد يكون هذا الكيان وبالًا عليها وسببًا لتعاستها وزوالها.
صحيح أنّ الكيانات السياسية تُمثل إطارًا يمكن أن يحمي ثقافة الجماعات، وربما يطورها عبر السعي لتجسيدها في أرض الواقع، لكن تحقق هذا الأمر موقوف على مستوى الانسجام الحاصل بين الثقافة والسياسة. وفي غير ذلك يصبح هذا الكيان السياسي أو تلك التجربة السياسية لهذه الجماعة عامًلا يستنزف ثقافتها التي كانت ذات يوم عامل الانتماء والاجتماع والقوة، ويمحق كل إيجابي فيها.
عالم اليوم هو عالم الكيانات السياسية التي باتت تُعد عند الكثيرين أعلى تمثيل متصوَّر للجماعات. منذ نشوء فكرة الدولة القومية والشعوب المختلفة تتخذ الكيانات السياسية كهويات خاصة، تتنزل إلى مستوى الجغرافيا والأرض المحددة بحدود مصطنعة لا صلة لها بثقافتها. صحيح أن قادة هذه الدول كانوا يعملون منذ اللحظة الأولى لتشكُّل تلك الكيانات على ترسيخ تلك الهويات من خلال وهم الجغرافيا، حيث يصبح المصري ابن النيل واللبناني ابن هذا الجبل، لكن هذا الانتماء هو أبعد ما يكون عن أي عنصر ثقافي يمكنه أن يعبّر عن الهوية الواقعية لهذه الجماعة ويميزها عن غيرها.
الكيانات السياسية التي تقوم على هويات دينية ومع ذلك لا تمتلك نظامًا سياسيًّا نابعًا من ثقافة دينها وقيمه تخادع مواطنيها وتفرض عليهم أن يتقبلوا ما ليس في دينهم. فمن باب المثال يمكن أن يسأل أي يهودي عن علاقة اليهودية كديانة بإسرائيل ككيان سياسي؟ وهنا كان على المؤسسين لهذا الكيان أن يطوّعوا بعض عناصر الديانة لإضفاء المشروعية واستنباط الرؤية؛ لكن سرعان ما تبيّن للجميع أنّ استخدام الديانة اليهودية لم يكن سوى وسيلة لشد العصب القومي والإقناع بمشروع لا علاقة له بروحها وأهدافها. وما كانت فكرة أرض الميعاد وأرض الحليب والعسل سوى تفسير قسري لمبادئ ونصوص لا تُمثّل روح اليهودية.
هكذا تصبح الكيانات السياسية سببًا لضعف ثقافة الجماعة حين يجري تطويعها لتشكيل انتماء لا يمت للثقافة بصلة.
في المقابل نشاهد تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران والتي قامت على نظامٍ سياسي ينسجم مع جوهر الدين الذي يؤمن به هذا الشعب، حيث كانت قضية الإمامة ضمن أصوله الاعتقادية الأساسية. وكان من الطبيعي أن تكون الدعوة لنظام ولاية الفقيه استمرارًا وتطبيقًا طبيعيًا لذلك الأصل. إنه نظام ولاية الفقيه أو نظام السيادة الشعبية الدينية الذي ينبثق من الاعتقاد بضرورة أن يكون الحاكم والقائد للأمة أفضل المسلمين علمًا وورعًا وحكمة وفضيلة. فهذا الاعتقاد الذي ترسخ في عقيدة الشعب الإيراني كان من الطبيعي أن يولّد نظامًا سياسيًّا يقوم على أساس حاكمية الفقيه الجامع للشرائط (من العلم والفقاهة والتقوى والنزاهة والشجاعة والتدبير).
هذا النظام الإسلامي وإن تمسّك ببعض عناصر القوة لدى الشعب الإيراني من لغة وقومية وجغرافيا، لكنه لم يجعل هذه العناصر بقوة وأهمية العناصر القيمية التي أقام عليها نظامه السياسي. ولذلك لم يشترط كون القائد الأعلى فارسيًّا أو إيرانيًّا أو ساكنًا في إيران، وإن كانت هذه العناصر ذات دخالة في مستوى انسجام الشعب ومؤازرته له. إنّه النظام الوحيد في العالم الذي يبني أطروحته السياسية على أساس القيم التي لا يرفضها أي إنسان بحكم إنسانيته وعقلانيته؛ هذا، وإن كانت هذه الأُطروحة ومبانيها بحاجة إلى الكثير من العمل على مستوى إيجاد المؤسسات والوسائل التي تُشرك جماهير الناس بصورة أفضل، الأمر الذي لم يتحقق بالشكل المطلوب بحكم ضعف التعليم وإخفاقاته وصراع الأجنحة وتسلُّل العلمانية إلى ذهنية الطبقة السياسية.
لدينا كيان سياسي تحت اسم دولة إسرائيل تمّ فرضه بقوة الإرهاب والقتل والقوة والعسكر والخداع ليس فقط على سكان فلسطين نفسها أو من حولها، بل على قسمٍ كبير من اليهود أنفسهم. ولدينا كيان سياسي استفاد من الحماس الثوري الديني ليعبر عن الانتماء القيمي الديني ويقدم مشروعًا يدعو إليه الناس ويعتبر مشاركتهم أساس قوته ودوامه. كيانان متنافران إلى حد التناقض، وقد حتمت الجغرافيا وقضية فلسطين الدينية تصارعهما إلى حد الفناء.
الكيان السياسي رغم أهميته ودوره في تقوية الثقافة وحضورها وتحقيق أهدافها، لكنه إن لم يكن منبثقًا منها وتجليًا لها، فسوف يكون وبالًا عليها. وحين يتم تغليب الكيان ومشروع الدولة على الثقافة، فمن المتوقع أن يخسر الناس كل يوم جزءًا مهمًّا من ثقافتهم التي كانت ملهم اجتماعهم وتضافرهم. ولذلك فإنّ إسرائيل وبعد أكثر من سبعين سنة على تشكيلها بقوة الاستعمار والمصالح الخارجية لم يبقَ من ثقافة شعبها سوى شعارات رنانة وعقيدة واحدة هي كونها تمثل مصلحة كبرى لأمريكا وأوروبا. وليس غريبًا على اليهود الذين امتهنوا على مدى العصور بيع الثقافة من أجل أثمان بخسة[1] أن يستمروا في بيع ثقافتهم لقاء الحصول على ما يعتبرونه مالًا كثيرًا من أسيادهم وأربابهم الغربيين. ولكن عما قريب سنرى جماعة لا تستطيع أن ترى قيمة لأي عنصر ثقافي فيها، وهكذا ستحل اللعنة عليها وتتفكك أكثر مما حصل على مدى العصور كلها. هكذا ضاعت الديانة اليهودية على مدى التاريخ ليتم استبدالها بهوية قومية قامت على تزييف الانتماء العرقي إلى حد السخرية.
[1]. {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَليلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُون} [سورة التوبة، 9]

الشرط الأول للانتصار على إسرائيل.. لماذا يجب أن نعيد النظر في خطابنا السياسي؟
إنّ القوّة الهائلة المندفعة للحضارة الغربية هي أكبر عامل لتخريب الأرض وإفسادها. لا نحتاج هنا إلى شواهد كثيرة لإثبات هذا الأمر، فقد ملأ فسادهم البر والبحر والهواء، حتى وصل إلى الفضاء. هذه الحضارة التي قامت على الاندفاع المحموم نحو السيطرة والنهب وتكديس الثروات والتوسع وأكل العالم، تؤدي حتمًا إلى تخريب الأرض وتهديم كل ما يرتبط بالحياة الإنسانية الطيبة.

لماذا تأخر النصر في فلسطين؟
نحن هنا نضع احتمالات من أجل استحضار بعض السنن الإلهية الاجتماعية وتسليط الضوء على الواقع والأحداث من أجل الوصول إلى إجابة مقنعة عن سؤال يقض مضاجع الجميع: لماذا تأخر النصر هكذا؟

حول قصف المدنيين العُزّل (2)
اخترتُ لكم هذا المقطع من كتاب روتغر برجمان "الإنسانية، تاريخ مليء بالأمل" لما فيه من شواهد تاريخية مهمّة على فشل وإخفاق تكتيك حملات قصف المدنيّين العزل وتدمير بيوتهم على رؤوسهم. ما يبدو في غزة أنّه عبارة عن تكتيكٍ عسكريّ لا يعدو أن يكون حملة انتقام لإشفاء الغيظ وطمأنة المستعمرين اليهود بأنّ فلسطين يمكن أن ترجع بلدًا آمنًا لهم. إلى أي مدى ستستمر هذه الكذبة؟

لماذا يُعد قصف المدنيين العُزّل نقطة عطف كبرى؟ وعلى ماذا يدل؟
إنّ ما نُشاهده اليوم هو أخطر ممّا جرى في حفلات الجنون الهمجية في الحرب العالمية الثانية، لأنّ أمريكا تُريد أن تجعل من إبادة المدنيين العُزّل حقًّا مشروعًا فتسنّ بذلك سُنّةً سيعمل بها الآخرون في أيّ مكانٍ في العالم حين تقتضي مصالحهم القيام بهذا النوع من الجرائم الحربية السافرة.

أهم آثار الحصار والتهديد بالإبادة الجماعية ما الذي يجتنيه المؤمنون حين يجتمع العالم كله ضدّهم؟
قال الله تعالى: {الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيمانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ}.[1]
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...