بين الرجعية والجمود والتقدم
التيارات المتصارعة في ساحات فكرنا
السيد عباس نورالدين
مؤلف كتاب معادلة التكامل الكبرى
على مدى العصور تفاعلت الشخصيات العلمية والحوزات الدينية المختلفة مع تراث الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام. اعتقد بعض أهل الفضل بعصمة علي بن أبي طالب وأبنائه من الحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسين عليهم أعلى صلوات الله والمصلين. وذلك بالطبع لدلائل عديدة في النقل والعقل؛ وانطلق هؤلاء الفضلاء والعلماء نحو الارتباط والاتصال العلمي بهم، باعتبار أنهم تراجمة وحي الله وأوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله الذين ورثوا علمه ونهلوا من معدنه.
وفي الوقت الذي كان معظم المسلمين يرون أهل البيت المعصومين أصحاب البركة والطهارة والشرف، تميزت نظرة فئة قليلة من المسلمين ورأت أنّ ما يمثلونه من معرفة الدين هو حجة الرب على الخلق أجمعين، وأنّ ما لهم من ولاية ومنصب دنيوي يمثل الخلافة الشرعية لرسول رب العالمين.
ومن الطبيعي أن تنعكس هذه العقيدة اهتمامًا وسعيًا حثيثًا للأخذ عنهم كل ما يتعلق بمعالم الدين ومعارف القرآن الكريم. وهكذا تشكل تراث عظيم فيه آلاف الأحاديث والنصوص التي شغلت أهل العلم والبحث طويلًا، وتشكل على أساس هذه الجهود البحثية تراث كبير دار حول ذلك التراث الأصلي وحام حول حماه.
الجهود البحثية للمعتقدين بإمامة الأئمة الاثني عشر وولايتهم وعصمتهم اختلفت وتفاوتت من حيث نتائجها وثمارها بين مجتهد وآخر، وتأثرت بالظروف والأوضاع والرؤى والقابليات والقدرات العملية لكل واحد منهم. ونجم عن ذلك تشكّل مدارس ومناهج أضحت كالتيارات التي تسبح وسط بحر الموالين وبيئاتهم المتنوعة.
فإذا نظرنا إلى هذه التيارات نجدها قد تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات، وذلك بحسب تفاعلها مع الزمان ومقتضياته.
التيار الأول، هو الذي تأثر كثيرًا بعظمة السلف من العلماء والقدماء، واعتبر آراءهم أفضل ترجمة وأصدق بيان للتراث المعصوم. وبالنسبة لهذا التيار، فإنّ التحوُّلات والتطورات الزمانية ستكون بمثابة الابتعاد عن الأصالة والحقيقة والصحة. بمعنى أنّه كلما طالت مدة بعدنا عن عصر الحضور (أي حضور المعصوم) ازددنا بعدًا عن فهم مراد الأئمة ومداليل كلماتهم.
التيار الثاني، هو الذي يتوقف عند آخر ما يتوصل إليه أهل البحث والاجتهاد، ويعتبر أنّ مجتهدي العصر متميزون بخاصية فريدة وهي وقوفهم على الجهود التحقيقية والعلمية التي تراكمت على مدى الزمان؛ وهذا يعني أنّ لهم الحظ الأوفر من القدرة على تحديد ما هو مراد الأئمة الأطهار.
وغالبًا ما دار النزاع بين هذين التيارين داخل المجامع العلمية، وما يرشح عنها من فكرٍ يُفترض أن يكون مواكبًا لتحديات العصر ومتطلبات المجتمع.
يعجز التيار الأول عن مواكبة كل التطورات والتحولات الزمانية؛ فينظر إليها بعين الريبة والاستياء؛ ولأنّه غير مشغول بما يحدث ولا يساهم بصناعة الأحداث، فمن الطبيعي أن يعتبرها من صناعة الآخرين الكفار، ويتمنى لو أنّ الزمان يعود إلى الوراء. ترى أهله يتغنون دائمًا بمقولات الأقدمين، بل بمقولة كل عالم اشتهر ومات. فموت العالم عند هؤلاء هو أهم شرط لمصداقيته. وبالنسبة لهؤلاء، فإنّ ما لدينا من معارف ومن تراث منقول كافٍ لسد حاجات هذا المجتمع وتأمين كل ما يلزم للإبقاء على التدين والدين.
التيار الثاني الذي يقدّر التضافر والتراكم المعرفي تراه مشغولًا بما عنده، غير قادر على النظر إلى المستقبل وما يجلبه من تحديات أو موضوعات تتطلب اجتهادًا. فتحديات الحاضر كثيرة ومتشعبة إلى الدرجة التي تمنعه من أن يتطلع إلى أي شيء آت. ولأجل ذلك، فإنّ هذا التيار وإن كان يعيش الحاضر بحسب الظاهر، لكنّه في الواقع لا يعيش سوى الماضي. فالآن الحاضر لا يكون سوى ماضٍ بعد آن. فما إن يفرغ أصحاب هذا التيار من فهم واقع الحاضر والآن، حتى يأتيهم استحقاق آخر في حاضرهم يشغلهم به. والفرق بين هذين التيارين هو أنّ الأول يعيش في الماضي البعيد والثاني يعيش في الماضي القريب.
كل من ينشغل بفهم الحاضر لن يتمكن في النهاية من فهم الحاضر؛ لأنّ الحاضر بعد فهمه سيصبح ماضيًا. وما لم يتطلع هؤلاء إلى المستقبل وما سيجلبه لهم، لن يتمكنوا من فهم الزمان ومقتضياته؛ ولذلك لن يتمكنوا من تطبيق الإسلام على الزمان أبدًا.
فلكي نفهم الزمان بما يعنيه من قضايا وموضوعات، يجب أن ننظر إلى المستقبل دومًا. وهذا ما يميّز الإنسان عن الحيوانات، وهو أنّه يتطلع إلى المستقبل. لكن ما يميز العالِم الحكيم عن غيره من الأناسي هو القدرة على فهم المستقبل. وفهم المستقبل يعني استشرافه وتصوُّر ما سيحصل فيه. وحينها سيكون عيش الحاضر سليمًا وصحيحًا. لأنّ المطلوب من الحاضر ليس سوى الاستعداد والعمل للمستقبل. {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَد}.[1]
أصحاب التيار الأول يمكن أن نُطلق عليهم عنوان الرجعية، لأنّ الأمر لا يتوقف عندهم في تمجيد السلف، بل في تمجيد كل ماضٍ. ولهذا فإنّ الحاضر يُثقل كاهلهم ويُزعج خاطرهم. وكيف لا يزعجهم وهو المستقبل المجهول الذي لا يمكنهم فهمه وإدراكه. ولهذا، تراهم يكرهون أي نوع من الحديث عن التحوُّلات الحضارية ويمقتونها، ويعدون العلماء المجدّدين والقادة المصلحين بمثابة أوجاع للرأس، بل يلومونهم على ما قاموا به، لأنّهم انقلبوا على الماضي وأظهروه بمظهر المعيوب الناقص! ولذلك لا تعجب أبدًا من أمثال هؤلاء حين تراهم ساخطين على ثورة الإمام الخميني وهم يترحمون على زمان الشاه.
العالِم التقدمي عند هؤلاء هو أسوأ خطر يمكن أن يحصل للشيعة بحسب تعبيرهم. وبالنسبة لهم فالزمان الموعود لا يمكن أن ندرك حكمته ولا أسراره. فهو سر مكنون، نُهينا عن الخوض فيه. ولا يعلم وقته وزمانه إلا الله تعالى. وكل تحليل حول أسباب الغيبة وشرائط الظهور ومقدماته فهو بمثابة الهرطقة والهذر.
هؤلاء الرجعيون غالبًا ما يتمسكون بكل تجارب القدماء وأقوالهم وآرائهم دون أي فحص ونقد واجتهاد. وكأنّ هؤلاء القدماء لم يُعمِلوا الاجتهاد ولم يكونوا أبناء زمان. ترى بعضهم يريد أن يُخرجك من هذا العالم الأرضي ليسبح بك في فضاءات الملكوت الأعلى، لا لأنّه يريدك أن تحلق في مراتب العروج، بل لأنّ هذا العالم الأرضي المتحول يزعجه ولا يقدر على فهمه ومعرفة مدى تأثيره على العلماء واجتهاداتهم وتجاربهم.
حين تجلس مع بعض هؤلاء تنسى الزمان والمكان، وتتوق إلى ذلك العالَم الذي لا تكون فيه أمريكا وإسرائيل والسعودية وإيران وأوروبا والصين وهوليوود والجامعات الأمريكية والدولار ومشاكل البيئة وغيرها من القضايا التي تلقي بثقلها على النفس والروح إلى حد الاختناق. تتمنى لو يعطونك ذكرًا يخرجك من كل هذه الوقائع وينقلك إلى محضر ذلك العالم الروحاني العظيم الذي ظهرت على يديه الكرامات، فشفى مريضًا أو أنقذ من السجن مظلومًا، في الوقت الذي يضج عالمك بالمشاكل الصحية والأوبئة والتهديدات الأمنية العالمية وما لا يُحصى من مصائب وكوارث.
التيار الثاني الذي يرى ما تحقق لحد الآن إنجازًا عظيمًا يجب المحافظة عليه ومنع أي محاولات انقلابية من شأنها أن تطيح به، يصبح شديد التمسُّك بالحاضر إلى الدرجة التي لا يدرك معها أنّ ما تحقق من إنجازات لم يكن سوى ثمرة مساعي أولئك الذين تطلعوا إلى المستقبل ولم يرضوا بالحاضر. هذا التيار الذي يتصور نفسه تقدميًّا ربما لا يقل سوءًا عن التيار الرجعي، وذلك لأنّه يظهر بمظهر التقدمي لكنّه جعل نفسه سدًّا منيعًا أمام التقدُّم. فهو الذي يعيش على أمجاد إنجازات التقدميين لكنّه يمنع من أي تقدم، لأنّه ليس لديه سوى ما قدمه له التقدميون الحقيقيون.
تراهم لا ينفكون عن التغني بالتقدميين من أهل العلم والقيادة، لكنّهم لا يقدمون أي شيء للمستقبل؛ وكأن الزمان عند هؤلاء قد جمد في اللحظة التي وصلوا فيها. ولذلك يجب نعت هذا التيار بالجمود، ويجب تذكيره بأنّه عاجلًا سيكون تيارًا رجعيًّا بكل ما تعنيه الكلمة.
لا شك بأنّ الشرط الأول للتقدم هو تقدير الماضي والحاضر. وهذا التقدير يجب أن يصل إلى مستوى الإحاطة. ولذلك يمكن القول إنّ مشكلة الرجعية والجمود تكمن في العجز عن الإحاطة. حين يرى الباحث أو الشيخ أو العالِم نفسه عاجزًا عن الإحاطة بتراث الماضين، فربما لا يُلام على جموده عندهم. وحين يرى الطالب أو القارئ نفسه عاجزًا عن الإحاطة بتراث المعاصرين، فربما لا يُلام على جموده عندهم. أنّى له أن يتطلع إلى المستقبل وهو لا يجد القدرة على استيعاب ما لديه، سواء كان من الماضي البعيد أو القريب؟! إنّ هذه الإحاطة تتطلّب قدرةً مميزة لا يمتلكها أيٌّ كان. وهذه القدرة لا تتوفر إلا من خلال امتلاك منهجية خاصة للتأمل والسير في أي تراث. فالإحاطة هي ابنة القدرة والقدرة هي ابنة المنهج. وما لم يصل الباحث إلى هذا المنهج، فمن الصعب أن يمتلك القدرة على الإحاطة بأي تراث.
المنهج الذي يوفر لأي باحث مثل هذه الإحاطة والتسلط هو الذي ينطلق من اعتبار الزمان عنصرًا أساسيًّا في الفهم والمعرفة. ولا معنى للزمان سوى أنّه خط متصل من الماضي إلى المستقبل. ولكي نمسك بهذا الخط يجب أن نبدأ من المستقبل.
الذين ينظرون إلى المستقبل بما سيجلبه للبشرية والمجتمع من تحديات ومسائل ومشاكل وابتلاءات هم الذين سيقدرون على الغوص في تراث الماضين والمعاصرين واكتشاف ما لديهم من كنوز وجواهر في الوقت الذي لن يؤخذوا بأصدافهم وأحجارهم. وهكذا يكون لهم الجرأة التامة على ترك الأحجار وأخذ الجواهر.
العالِم الحقيقي هو الذي يتمكن من فهم الحاضر فهمًا عميقًا باعتبار أنّه مقدمة لصنع المستقبل الذي هو مسؤوليته الأساسية. لم يكن العلم الذي نزل إلينا إلا من أجل أن نصنع مستقبلًا مشرقًا لكل البشرية.
[1]. سورة الحشر، الآية 18.
مختصر معادلة التكامل
هذه الطبعة المختصرة لكتاب "معادلة التكامل الكبرى" الذي يبيّن مدى سعة الإسلام وشمول رؤيته ومنهجه لكلّ شيء في الوجود. كيف لا؟ والله عزّ وجل هو المبدأ والمنتهى.. نقدّمها لقرّائنا الذين يودّون أن يحصلوا على معرفة أوّليّة بتلك المعادلة الكبرى، أو للذين لا يجدون الوقت الكافي لمطالعة الكتب الكبيرة. مختصر معادلة التكامل الكاتب: السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 14*21غلاف ورقي: 200 صفحةالطبعة الأولى، 2017مالسعر: 6$للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراؤه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:
معادلة التكامل الكبرى
يقدّم رؤية منهجيّة تربط بين جميع عناصر الحياة والكون وفق معادلة واحدة. ولهذا، فإنّك سوف تلاحظ عملية بناء مستمرّة من بداية الكتاب إلى آخره، تشرع بتأسيس مقدّمات ضروريّة لفهم القضية ومنطلقاتها، ثمّ تمرّ على ذكر العناصر الأساسية للحياة، لتقوم بعدها بالجمع بينها والتركيب، لتخرج في النهاية بمعادلة شاملة لا تترك من مهمّات الحياة شيئًا. معادلة التكامل الكبرى الكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 21.5*28غلاف ورقي: 336 صفحةالطبعة الأولى، 2016مالسعر: 15$ تعرّف إلى الكتاب من خلال الكاتب للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم أن تطلبوه عبر موقع جملون على الرابط التالي:
روح المجتمع
كتابٌ يُعدّ موسوعة شاملة ومرجعًا مهمًّا جدًّا يمتاز بالعمق والأصالة لكلّ من يحمل همّ تغيير المجتمع والسير به قدمًا نحو التكامل، يحدد للقارئ الأطر والأهداف والسياسات والمسؤوليات والأولويّات والغايات المرحليّة والنهائيّة في كلّ مجال من المجالات التي يمكن أن تشكّل عنصرًا فعّالًا في حركة التغيير، على ضوء كلمات قائد الثورة الإسلاميّة المعظّم روح المجتمع الكاتب: الإمام الخامنئي/ السيد عباس نورالدين الناشر: بيت الكاتب حجم الكتاب: 19*25غلاف كرتوني: 932 صفحةالطبعة الأولى، 2017م ISBN: 978-614-474-020-0 سعر النسخة الملوّنة: 100$سعر النسخة (أبيض وأسود): 34$ للحصول على الكتاب خارج لبنان يمكنكم شراءه عبر موقع جملون بالضغط على الرابط التالي:
على طريق بناء المجتمع التقدمي
المجتمع التقدّمي هو المجتمع الذي يتحرّك أبناؤه نحو قمم المجد والفضيلة والكمال.المجتمع التقدمي هو التعبير الأمثل عن استجابة الناس لدعوة الأنبياء الذين أرادوا أن يخرجوا البشرية من مستنقع الرذيلة والحيوانية والعبثية لإيصالها إلى أعلى مراتب الإنسانية والنور..فما هي سبل إقامة هذا المجتمع؟وما هي العقبات التي تقف في طريق تحقّقه؟ على طريق بناء المجتمع التقدّمي الكاتب: السيد عباس نورالدينالناشر: بيت الكاتبحجم الكتاب: 14.5*21عدد الصفحات: 376الطبعة الأولى، 2019Isbn: 978-614-474-081-1السعر: 14$
أي مجتمع نريد؟
ما هي أهمية البحث عن المدينة الفاضلة؟ وكيف نرتقي بوعينا ومسؤوليتنا الاجتماعية؟ ما هي القضايا التي لا بد من دراستها وفهمها لرسم معالم الطريق الموصل إلى المجتمع الأمثل. وما هي العوائق الكبرى على هذا الطريق.
حول تفعيل دور التبليغ.. كيف نخرج من حالة الانسداد الحالية
كل من لديه اهتمام بتبليغ الحقائق والمعارف الدينية يعلم بأنّ هناك الكثير الكثير من الكلام الذي يجب أن يُقال ولا يُقال، سواء كان ذلك على مستوى المضمون أو الإيصال. في مجتمعنا هذا، الذي نمارس فيه هذا الدور منذ أربعة عقود، نكتشف كل يوم حجم الفراغ الذي يعيشه الك
في ظل الجمود الفكري وفي ظل الحاجة إلى أجوبة عن أسئلة حساسة.. أين هو المنهاج العلمي الفريد؟
كل من يشرف على مراكز الإعداد والتعليم الإسلامي يفكر مليًّا في البرامج المُثلى التي تصنع المفكّر والعالم القادر على تعميق الوعي العام تجاه قضايا الإسلام الكبرى.. ولكن نظرة عامة على قضية المهدوية يبين لنا حجم الفراغ وعدد الأسئلة التي ما زالت دون أجوبة شافية.
الكاتب
السيد عباس نورالدين
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران : الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه. بدأ رحلته مع الكتابة والتدريس في سنٍّ مبكر. ...