الأسرة كقضية أولى في التعليم
المعارف والمهارات

السيد عباس نورالدين

نظرة معمقة إلى مخرجات المناهج المدرسية الحالية تبين النقص الفادح على مستوى معارف الأسرة ومهاراتها، في الوقت الذي تُعدّ هذه القضية الأكثر ارتباطًا وتأثيرًا على حياة الإنسان وسعيه ومستقبله.
ما هو مؤسف حقًا أن نكون مقلدين للمجتمعات الغربية في وضعها للمناهج المدرسية انطلاقًا من تهميش دور الأسرة لمصلحة الدولة والمجتمع. فقد أدرك الغرب أنّ بناء الإنسان المواطن دافع الضرائب المنقاد للقانون لا يمكن أن يتحقق في ظل الأسرة المتفككة؛ واعتبر أنّ معالجة هذه المشكلة المزمنة جذريًّا أمر غير ممكن، وذلك لتعارض قيم الأسرة التقليدية مع بعض القيم التي تشكلت في رحم الثورة الصناعية ومستلزمات الحرب العالمية، كقيمة تحرير الفرد والإبداع والنشاط وغيرها...
لقد كانت الأسرة بنظامها التقليدي أحد موانع التقدم والتطور بالنسبة للغربيين، فكيف إذا أضفنا مشكلة تفككها التي باتت تترك مضاعفات نفسية هائلة على الطفولة والشخصية وتعيقها من التأقلم والاندماج مع مشاريع الدولة وأهدافها؟
ما هو مؤسف إذًا، أن لا يدرك واضعو المناهج التعليمية في بلادنا أنّ تحديد الكم والنوع المعرفي (حجم المعلومات المرتبط بأي قضية) كان يخضع لاعتبارات خاصة بتلك المجتمعات، ولا ينبغي اعتباره شيئًا عالميًّا لمجرد أنّه يحقق التفوق النوعي في الفيزياء والكيمياء والرياضيات واللغات. وهذا مظهر آخر من مظاهر تقديم العلوم على القضايا في المناهج.
إنّ مقاربة التعليم من زاوية القضايا الكبرى للحياة يحتم علينا أن نجعل للأسرة الموقعية المركزية في الإعداد والبناء باعتبار أنّها المحل الأمثل للتنشئة والتفاعل وظهور الخصائص الإنسانية الرفيعة. ففيها تتشكل أوليات النظر إلى الحياة والوجود، ولو بصورة غير واعية. وفيها يُشاد الميدان الأنسب للعطاء والمشاركة؛ لأنّ خير الإنسان يتجلى أولًا في علاقته بأسرته ويظهر بأسمى صورة فيها. ولو حرمنا الإنسان من هذا الميدان الحيوي، فسوف يجد صعوبة بالغة في العطاء في الميادين الأخرى، ويصبح الأخذ والاستحواذ مسيطرًا عليه وتترسخ أنانيته، الأمر الذي يُعد منشأ جميع الآفات والمصائب التي تعاني منها المجتمعات البشرية.
كلّما تجذرت شجرة الأسرة في المجتمع، تفرّعت منها غصون القيم المعنوية والإنسانية الراقية. فالأسرة منطلق ومنبع ومظهر وأثر لكل ما هو إنساني، وهي أفضل مؤشر يدل على مستوى سعادة المجتمع وشقائه.
إنّ المعارف المرتبطة بالأسرة ـ وبحسب الرؤية الكونية الإسلامية ـ هي التي تمكّن المتعلم من فهم واستيعاب أهمية الحياة الاجتماعية بالنسبة لدوره ومصيره. ولأجل ذلك يجب تعميق معنى الأسرة في نظام الخلق والتدبير الإلهي، حتى تظهر معالم الرؤية الأخلاقية المرتبطة بها على مستوى الفعل والسلوك.
إنّ موقعية الوالدين عند الله لا تظهر بمرتبتها الرفيعة إلا في ظل التعاليم الأخلاقية والأحكام الفقهية للإسلام؛ كما أنّ جميع القيم والأحكام المرتبطة بالعلاقات الاجتماعية في الإسلام لا يشبهها شيء في أي منظومة أخرى؛ فهي التجلي العيني لكل القيم المعنوية السامية، حتى قيل في الأحاديث الشريفة "لا يخدم العيال إلا صدّيق أو شهيد".[1]
وهكذا تظهر معالم الرؤية الإسلامية في الأخوّة والصداقة والرحمية والجيرة والزواج والتربية، ويتطلع المتعلم إلى اكتشاف مسؤولياته الخطيرة في هذا المجال انطلاقًا من حجم المعرفة المتميزة التي تلقاها، ويصبح أكثر اندفاعًا نحو اكتساب المهارات اللازمة للنجاح فيها.
يجب أن تكون المناهج المدرسية داعمة لمحورية الأسرة وذلك من خلال تشجيع الأهل على الانخراط في تعليم أبنائهم دون تحميلهم أعباء ثقيلة كما يحدث اليوم ويؤدي إلى عكس الغرض. فمناهج اليوم تجعل كل أم أو أب يرغب بتدريس ولده شريكًا في الضغوط التي تمارس على الأولاد، ولطالما فقد الأولاد الشعور برحمة الأهل جراء ذلك وأُصيبت علاقتهم بهم بنكسات حادة.

يجب أن يساعد التعليم الأبناء على إدراك الحكمة الموجودة عند الكبار لا العكس؛ كما يمكن أن نجعله فرصة لترسيخ معارف الكبار في انخراطهم بتعليم الصغار. مثلما أنّه يُعد فرصة مهمة لتفعيل التواصل البنّاء بين الجميع. ويجب أن نعدّ المناهج بطريقة تخدم هذا الهدف.
إنّ رسوخ هذا التواصل الإيجابي يُعد أحد أكبر الأرصدة التي يستحوذ عليها الجميع كبارًا وصغارًا في هذه الحياة. وبواسطة هذه الفرص يتمكن الإنسان من الشعور بالأمن والطمأنينة في عالمٍ تعصف به ظروف القطيعة والوحشة.
يمكن البناء على الدراسات الموجودة بين أيدينا حول الأسرة والعلاقات لتطوير المناهج الحالية بصورة ملفتة؛ كما أنّ انخراط الباحثين والمحققين الأصيلين في عملية وضع المناهج يساعدهم على رؤية الكثير من الأمور بمنظارٍ جديد أعمق وأسلس. ولا يدعي أحد بأنّ النظرية الإسلامية للعلاقات قد تم بيانها بالكامل؛ لكن ما لدينا من تراث كفيل بأن يظهر البعد المتفوق للإسلام في هذا المضمار العالمي الواسع.

[1]. مستدرك الوسائل، ج13، ص 49.