صناعة الشخصية القيادية في المدرسة
قضية كبرى للتعليم في المستقبل!

السيد عباس نورالدين

رغم أهميتها ودورها المحوري، لم تأخذ القيادة من الفكر البشري ما تستحقه من الدراسة والتحليل، فضلًا عن التعليم والإعداد؛ فحضور قضية بهذا المستوى من التأثير في المناهج المدرسية، يكاد يكون معدومًا. والسبب قد يكون عجز الفكر البشري المهيمن على القطاع التعليمي عن أن يدرك القوانين والمعادلات العلمية لها، كمقدمة ضرورية لتحويلها إلى معارف ومهارات ومناهج وبرامج!
ككل قضية، تبدأ المشكلة من الغفلة عن أهمية إعداد القادة وبناء الشخصية القيادية ودورها المصيري في إنقاذ المجتمع وإصلاحه وتقدمه، وتترسخ بعدها بسبب تصدي الفاقد الناقص لإعداد الناقص الفاقد (قيام من لا شأن له ولا تجربة قيادية في حياته بإعداد المناهج التعليمية)؛ لكنها تمر بنقصٍ حاد في الأدبيات اللازمة لإنتاج مناهج تعليمية مدرسية (هذه الأدبيات التي تتناول القيادة وخصائصها وأسرارها ودورها ونماذجها الناجحة والفاشلة و..).
لكي تكون عملية إعداد المناهج التعليمية صحيحة ومنتجة ومهتدية، ينبغي أن تبدأ من الرؤى التي يحملها قادة المجتمع ورواده الذين يُفترض أن يكونوا الأنموذج الأعلى المرتجى. فبإمكان هؤلاء فقط تحديد ما هو مطلوب حقًّا وما هي الأهداف الدقيقة وكيف يمكن الوصول إليها؛ أمّا من سواهم فسوف يكون مبتلى بالعجز، فلا يصنع إلا من كان مثله في أحسن التقادير، الأمر الذي يؤدي إلى ابتلاء المجتمع بآفة التراجع والتقهقهر بدل التقدم والارتقاء. فأي مجتمع يريد التقدم، فإنّه يبدأ من النقطة الصحيحة، وهي: تغليب رأي الأعلم والأكفأ والأقدر (أي النموذج الحقيقي للقيادة).
أمّا أكبر عائق أمام التقدم الاجتماعي في أي أمة أو شعب فهو يتمثل في العجز عن تقديم هذه النماذج القيادية وإنتاجها؛ والذي يكون نتيجة طبيعية لإخفاق السياسة الأولى؛ فمن لا يتبع الأعلم الأكفأ لن يصنع القادة المستقبليين الذين يحتاج إليهم لإكمال مسيرة التقدم؛ فيدخل في تلك الدائرة الملعونة للتراجع والتخلف، حيث يبقى تائهًا فيها إلى أن يأذن الله.
يتميّز القادة الواقعيون بحرصهم الشديد على صناعة من يتفوق عليهم، بعد إقناعه أو إلهامه بحمل الراية التي رفعوها، وبعد أن يستوعب كامل المشروع والأطروحة التقدمية التي آمنوا بها وعملوا عليها؛ ولا شيء يمكن أن يوسع من دائرة فرص صناعة وإنتاج هؤلاء الخلفاء الناجحين مثل ميدان التعليم العام. لذلك يجب أن يكون التعليم أول مسؤولية يضطلع بها القائد الناجح. وهنا ينبغي أن يعمل معدّو البرامج الأذكياء على تحويل شخصية هؤلاء القادة إلى برامج تعليمية. حيث تكون الخطوة الأولى والأهم في اكتشاف وتحديد مقوّمات قيادتهم الناجحة، وخصائصها ومميزاتها وأسرار نجاحها، وكيفية الوصول إليها. فإذا كان الإمام الخميني هو النموذج الأبرز للقيادة الناجحة الرشيدة المتفوقة، التي بفضلها تحققت كل الإنجازات الرائعة على جميع الصعد، فينبغي أن تنصب جهود معدّو المناهج التعليمية على صناعة مئات الخميني، وتوجيه كل البرامج بهذا الاتّجاه. وإذا كان ألبرت آينستاين هو النموذج الأعلى للشخصية العلمية في مجال الفيزياء، فينبغي أن تكون البرامج الفيزيائية متمحورة حول صناعة آلاف الآينستاينيين؛ وهكذا...
مصيبتنا في إعداد البرامج تكمن في التقليد الأعمى لمناهج الآخرين، مع بعض التعديلات السطحية. وبسبب ذلك، كانت قضية القيادة وصناعة القادة مغيبة إلى هذا الحد من المناهج التعليمية.
أجل، إنّ شدة تواضع قادتنا قد يكون من عوامل خفاء القوانين والمعادلات التي أنتجتهم وأوصلتهم إلى ما وصلوا إليه في مقام القيادة الناجحة. فأغلبهم لا يعتقد بأنّ قيادته هي وليدة خصائص ومميزات بقدر ما هي توفيق وابتلاء. ولهذا، قد يظهر منهم عدم الاكتراث لقضية نقل التجربة والحديث عن الخبرات الذاتية. لكن استخراج هذه الدروس وتحويلها إلى برامج ليس بالأمر الممتنع. وأول خطوة تكمن في استنطاقهم بما يتعلق بآفاق المستقبل والتطلعات والتحديات.
إن أردنا أن نجعل قضية صناعة القادة محورًا أساسيًّا في التعليم، يجب أن يكون لإنجازات قادتنا النوعية في المجتمع (في أي مجال من المجالات الحيوية) حضورًا قويًّا وبارزًا؛ ولأجل ذلك، ينبغي أن نعمل على تحقيق ما يشبه الإجماع والاعتقاد العام في دوائرنا التربوية حول تلك الإنجازات وقيمتها وموقعها؛ كل ذلك إنّما يحصل بعد دراستها وفهمها في سياقاتها الحقيقية (الرؤى والقيم والوقائع والتحولات)؛ وهكذا نتمكن من الانتقال إلى الخطوة التالية التي لا تقل أهمية عن سابقاتها، وهي أن نجعل لهؤلاء القادة أنفسهم حضورًا متناسبًا مع شأن القيادة في البرامج نفسها.
رغم أنّ العقول التي اشتغلت على دراسة القيادة قدّمت الكثير من الملاحظات العلمية المفيدة حولها، لكن حصر قضية إعداد القادة عبر التعليم العام في المعلومات والمعارف لن يكون متناسبًا مع الأهداف المرجوة؛ ولأجل ذلك ينبغي أن نجعل من الارتباط المعنوي والعاطفي بالنماذج القيادية الحقيقية ركنًا أساسيًّا في المنهاج.