الطريقة الأمثل لتدريس الدين
رؤية منهاجية ومعالجة تقنية

السيد عباس نورالدين

الدين الإلهي نظام حياة لأجل تحقيق إرادة الله في تكميل الإنسان والعالم. فهو مشروع عملي تطبيقي له أهداف محددة، لا مجرد اختبار أو امتحان. وأبعد ما يكون الدين عنه هو إشقاء الإنسان وتكبيده والإضرار به وتعذيبه. ففيه الحل لكل المشاكل المستعصية التي تعجز عقول الناس عنه، بالإضافة إلى أنّه أفضل وسيلة لتنمية العقول والاستزادة من أنوارها.
إنّ إيمان الإنسان بالتكامل واعتقاده بأنّ حياته عبارة عن فرصة وحيدة لتحقيق هذا الهدف هو القاعدة الأولى لبناء الدين وصرحه المتين في النفس والقلب. وحين تهون نفس الإنسان عليه ويستقل شأنها، فسوف تضعف علاقته بالدين ولا يرى حاجة فيه.
فإن كنّا نريد تقوية رابطة أبنائنا بهذا الدين الحق، فعلينا أن نبتكر كل وسيلة ممكنة لأجل ترسيخ شعورهم بأهمية الاهتمام بنفوسهم وارتباط ذلك بكل ما سيجري عليهم في الحياة الدنيا والآخرة. وهنا سيكون الدين خيارًا أرقى وأيسر للسير على هذا الطريق؛ {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ‏ نَفْسَه‏}.[1]
ينبغي أن نجعل من هذا المعنى هدفًا أساسيًّا للتعليم الديني. وقبل البدء بالحديث عن الدين وأحكامه ورؤيته وتعاليمه، سوف يكون لدينا المتسع من الوقت للعمل التعليمي التربوي على تعزيز شعور الطفل بنفسه وأهميتها وعظمة التكامل وضرورته وارتباط كل شيء به. إنّ هذا يختلف كليًّا عن الأنانية التي تحصر محبة الذات بالأنا. فإنّ حب الإنسان لنفسه كمخلوقٍ جميل لديه الاستعداد لبلوغ أعلى درجات الكمال يشمل النوع، وكلّما أحب الإنسان الكمال لغيره ازداد كمالًا أو قربًا منه.
إنّ ربط السعادة واللذة والسرور والفرح والمرح بالتكامل هو التحدي الأكبر أمام هذه المرحلة التعليمية الحساسة؛ كما أنّ ربط الشقاء والتعاسة والألم والحزن والفشل بترك التكامل يُعد من لوازم هذا الأصل.
إنّ لهذا الهدف علامات ومعايير يُعرف بها وليس شيئًا وهميًّا أو نسبيًّا. فإنّ مجالات التكامل في هذه المرحلة العمرية متاحة ولها ما يتناسب معها من حب العمل الصالح والعلم والإنسان والتواصل الإيجابي والعلاقات الطيبة. ومع القليل من الجهد والتدقيق يمكن جعل هذه العلامات والمؤشرات العامة متوزعة على المراحل العمرية المختلفة.
وفي المرحلة الثانية ينبغي ربط رحلة التكامل بمصير الأرض والعالم؛ حيث جعل الله إصلاح الأرض والسعي لتبديلها إلى جنة جوهر رحلة الإنسان التكاملية؛ لأنّ التكامل ينبغي أن يحصل من خلال العروج والنفوذ في أقطار السماوات والأرض. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بعد تغيير الحياة الاجتماعية أو الموت على طريق ذلك. وهكذا يترسخ في نفس المتعلم المعنى الدقيق للوسيلة التي ينبغي أن يتخذها للتكامل.
وفي المرحلة الثالثة يتم ربط إصلاح المجتمع كمقدمة لإصلاح الأرض كمقدمة للعروج الملكوتي بالنفس وصلاحها. فلا بد من تحقيق مقدمات مهمة في النفس لكي يقدر الإنسان على القيام بمسؤولياته الأساسية تجاه المجتمع والأرض والعالم. وهكذا يتعزز محور تكميل الذات بعد تزكيتها.
ولكي يقوى حضور الدين في حياة المتعلم ويشتد ارتباطه به، يجب أن يتعرف إلى كل أطروحة معروضة على مرأى ومسمع العالم في كل شأن من شؤون حياته وابتلاءاته وقضايا المجتمع والأرض. وهي مرحلة البحث المقارن غير العشوائي بل المبني على السعي لبناء وتشكيل الأطروحة الشاملة لتكميل الذات والمجتمع والعالم.
فإذا كنّا بصدد طرح برنامج الإسلام للنظافة الشخصية أو العامة، لا بد أن يتعرف التلميذ إلى أهم الأطروحات أو البرامج أو العادات الموجودة في العالم بالإضافة إلى الأطروحة الإسلامية. وخصوصًا في هذا الزمان حيث نجد الميل الشديد لدى أبنائنا تجاه الحضارة الغربية وجمالياتها، وتسلل الاعتقاد عندهم بأنّ هناك ما هو أجمل وأرقى ممّا عندنا.
إنّ الإشارة إلى الآخر دومًا من موقع العلو والنزاهة والتعفف لا يزيد هؤلاء الشباب إلا سقمًا ومللًا من كل ما يُطرح. فهم يرون جمال الآخر أكثر ممّا يرون جمال ما عندنا. وكل من يشير إلى ذلك الجمال على أنّه قبح لن يحصد سوى النفور.
يجب أن تحتوي مناهجنا التعليمية على محورٍ خاص عن إله العالم في الأديان والمذاهب، بشرط أن نأتي بالشواهد من أهلها ومن مصادرها الحالية، لا ممّا قاله من عندنا عنهم. وفي عصرنا هذا، ما أيسر أن نجد الكثير من المصادر على الشبكة العالمية حول أي موضوع عند أي ثقافة.
ما الذي يقوله عامة المسيحيين عن الإله الخالق؟
وما الذي يقوله اليهود والمسلمون بمختلف طوائفهم ومذاهبهم؟
وما الذي يقوله أشهر علماء المسلمين اليوم؟
ولماذا هذا البعد بين عامة الناس وهذه الأفكار الرائعة؟
هذا نموذج لتدريس الدين بالصورة التي يمكن أن تحقق أعلى درجات الوعي والمعرفة والإيمان. وفي غير هذه الحالة فلا ينبغي أن نتعجب ونحار ونتساءل لماذا لا تحقق مناهجنا أدنى مستوى من التدين والمعرفة!
يجب أن تدور المحاور التعليمية حول البحث عن الحلول للمشكلات والقضايا بالصورة البنائية. فمحور إله العالم يجب أن يدور حول البحث عن حل لمشكلة ضعف الإيمان مثلًا، أو كيف نجعل مجتمعنا أكثر إيمانًا، أو كيف يمكن أن أنقل هذه المعارف الرائعة حول الألوهية إلى الشباب الكوريين. ومحور الاقتصاد والمعيشة يجب أن يدور حول البحث عن الحلول لأزمات الفقر والحرمان دون إغفال أشهر النظريات والآراء في هذا المجال.
وإنّ أفضل طريقة للتعامل الصحيح مع قضايا الجنس والعلاقات والشهوات التي تقض مضاجع المربين في كل العالم هي أن نجعله مشكلة ذات آثار واضحة تتطلب حلولًا. وكلما تعمقت رؤية المتعلم لهذه الآثار وشاهد بأمّ عينه تبعاتها وانعكاسها على نفسه ومجتمعه والأرض أصبحت قضية ملحة سيبحث لها عن حلول وعلاجات؛ الأمر الذي يُعد أفضل وسيلة للتنزه منها.
إنّ احترام قدرات التلميذ (الفكرية التحليلية الإنتاجية) من جهة، وعرض جميع الرؤى والأيدولوجيات من جهة ثانية، بشرط أن يكون ذلك بمنتهى الموضوعية والاحترام، من شأنه أن يعمق الشعور بعظمة الإسلام وروعته وجماله وقدراته.
أليس هذا ما نريده من تعليم الدين؟

[1]. سورة البقرة، الآية 130.